المنشورات

سليمان والحجاج:

كان سليمان بن عبد الملك يكتب إلى الحجاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كتبا فلا ينظر له فيها، فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، من سليمان بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف، سلام على أهل الطاعة من عباد الله، أما بعد؛ فإنك امرؤ مهتوك عنه حجاب الحق، مولع بما عليك لا لك، منصرف عن منافعك، تارك لحظك، مستخف بحق الله وحق أوليائه، لا ما سلف إليك من خير يعطفك، ولا ما عليك لآلك يصرفك في مبهمة من أمرك مغمور منكوس معصوصر «1» عن الحق اعصيصارا، لا تتنكّب «2» عن قبيح، ولا ترعوي «3» عن إساءة، ولا ترجو لله وقارا؛ حتى دعيت فاحشا سبابا، فقس شبرك بفترك، واحذ زمام نعل بحذو مثله فايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنك دوسة تلين منها فرائصك «4» ، ولأجعلنك شريدا في الجبال. تلوذ بأطراف الشمال، ولأعلقن الرومية الحمراء بثدييها، علم الله ذلك مني وقضى لي به عليّ، فقدما غرّتك العافية. وانتحيت «5» أعراض الرجال؛ فإنك قدرت فبذخت، وظفرت فتعدّيت؛ فرويدك حتى تنظر كيف يكون مصيرك إن كانت بي وبك مدة أتعلق بها.
وإن تكن الأخرى فأرجو أن تئول إلى مذلة ذليلة، وخزية طويلة، ويجعل مصيرك في الآخرة شرّ مصير! والسلام.
فكتب إليه الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحجاج بن يوسف إلى سليمان بن عبد الملك، سلام على من أتبع الهدى، أما بعد، فإنك كتبت إلي تذكر أني امرؤ مهتوك عني حجاب الحق، مولع بما عليّ لا لي، منصرف عن منافعي، تارك لحظي، مستخف بحق الله وحق وليّ الحق؛ وتذكر أنك ذو مصاولة «6» ؛ ولعمري إنك لصبيّ حديث السن، تعذر بقلة عقلك، وحداثة سنك ويرقب فيك غيرك.
فأما كتابك إليّ فلعمري لقد ضعف فيه عقلك، واستخف به حلمك، فلله أبوك! أفلا انتصرت بقضاء الله دون قضائك، ورجاء الله دون رجائك وأمتّ غيظك وأمنت عدوك، وسترت عنه تدبيرك، ولم تنبّهه فيلتمس من مكايدتك ما تلتمس من مكايدته؟ ولكنك لم تستشفّ «1» الأمور علما، ولم ترزق من أمرك حزما، جمعت أمورا دلّاك فيها الشيطان على أسوأ أمرك، فكان الجفاء من خليقتك، والحمّق من طبيعتك، وأقبل الشيطان بك وأدبر، وحدّثك أنك لن تكون كاملا حتى تتعاطى ما يعيبك، فتحذلقت حنجرتك لقوله، واتسع جوانبها لكذبه، وأما قولك لو ملكك الله لعلّقت زينب ابنة يوسف يثدييها؛ فأرجو أن يكرمها الله بهوانك وأن لا يوفق ذلك لك إن كان ذلك من رأيك؛ مع أني أعرف أنك كتبت إلي والشيطان بين كفيك، فشرّ ممل علي شرّ كاتب راض بالخسف «2» ، فأحر بالحق أن لا يدلك على هدى، ولا يردّك إلا إلى ردى؛ وتحلب فوك للخلافة، فأنت شامخ البصر، طامح النظر تظن أنك حين تملكها لا تنقطع عنك مدتها؛ إنها للقطة الله، أسأل الله أن يلهمك فيها الشكر. مع أني أرجو أن ترغب فيما رغب فيه أبوك وأخوك فأكون لك مثلي لهما، وإن نفخ الشيطان في منخريك فهو أمر أراد الله نزعه عنك وإخراجه إلى من هو أكمل به منك؛ ولعمري إنها النصيحة فإن تقبلها فمثلها قبل، وإن تردّها علي اقتطعتها دونك وأنا الحجاج.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید