المنشورات

عبد الملك والحجاج وعروة ابن الزبير:

كان عروة بن الزبير عاملا على اليمن لعبد الملك بن مروان، فاتصل به أن الحجاج مجمع على مطالبته بالأموال التي بيده وعزله عن عمله؛ ففر إلى عبد الملك وعاذ به تخوّفا من الحجاج واستدفاعا لضرره وشرّه؛ فلما بلغ ذلك الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان:
أما بعد فإن لواذ المعترضين بك، وحلول الجانحين إلى المكث بساحتك، واستلانتهم دمث «1» أخلاقك وسعة عفوك، كالعارض المبرق لأعدائه لا يعدم له شائما، رجاء استمالة عفوك؛ وإذا أدني الناس بالصفح عن الجرائم، كان ذلك تمرينا لهم على إضاعة الحقوق مع كل وال والناس عبيد العصا، هم على الشدة أشدّ استباقا منهم على اللين، ولنا قبل عروة بن الزبير مال من مال الله، وفي استخراجه منه قطع لطمع غيره، فليبعث به أمير المؤمنين إن رأى ذلك، والسلام.
فلما قرأ الكتاب، بعث إلى عروة ثم قال له: إن كتاب الحجاج قد ورد فيك، وقد أبى إلا إشخاصك إليه. ثم قال لرسول الحجاج: شأنك به. فالتفت إليه عروة مقبلا عليه، وقال: أما والله ما ذلّ وخزي من مات، ولكن ذل وخزي من ملكتموه؛ والله لئن كان الملك بجواز الأمر ونفاذ النهي، إن الحجاج لسلطان عليك، ينفذ أموره دون أمورك؛ إنك لتريد الأمر يزينك عاجله ويبقى لك أكرومة «2» آجله، فيجذبك عنه ويلقاه دونك، ليتولى من ذلك الحكم فيه، فيحظى بشرف عفو إن كان، أو يجرم عقوبة إن كانت، وما حاربك من حاربك إلا على أمر هذا بعضه.
قال: فنظر في كتاب الحجاج مرة ورفع بصره إلى عروة تارة، ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب إليه:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين رآك مع ثقته بنصيحتك، خابطا في السياسة خبط عشواء «1» الليل؛ فإنّ رأيك الذي يسولّ لك أن الناس عبيد العصا، هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوثوب عليك، وإذا أحرجت العامة بعنف السياسة، كانوا أوشك وثوبا عليك عند الفرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الداعي ولا هداه، إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك؛ وقد وليت العراق قبلك ساسة، وهم يومئذ أحمى أنوفا، وأقرب من عمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلح منك عليهم، وللشدة واللين أهلون، والإفراط في العفو أفضل من الإفراط في العقوبة، والسلام.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید