المنشورات

الحجاج يخطب أهل العراق بعد مرضه:

ومرض الحجاج، ففرح أهل العراق وقالوا: مات الحجاج! مات الحجاج! فلما أفاق صعد المنبر وخطب الناس فقال:
يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، مرضت فقلتم: مات الحجاج! أما والله لأحب إليّ أن أموت من أن لا أموت، وهل أرجو الخير كله إلا بعد الموت؟ وما رأيت الله رضى بالخلود في الدنيا، لأحد من خلقه إلا لأبغض خلقه إليه وأهونهم عليه: إبليس؛ ولقد رأيت العبد الصالح يسأل ربه فقال: رب هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
»
ففعل، ثم اضمحل ذلك فكأنه لم يكن.

وله حين أراد الحج واستخلف ولده:
وأراد الحجاج أن يحج، فاستخلف محمدا ولده على أهل العراق، ثم خطب، فقال:
يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق، إني أردت الحج، وقد استخلفت عليكم محمدا ولدي، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصي به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأنصار؛ فإنه أوصى فيهم أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؛ وإني أوصيته أن يقبل من محسنكم، وأن لا يتجاوز عن مسيئكم! ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي: لا أحسن الله له الصحابة! وأنا أعجل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة! ثم نزل.

وله في وفاة ابنه:
فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج، فلما كان بالعشي أتاه بريد من اليمن بوفاة محمد أخيه: ففرح أهل العراق، وقالوا: انقطع ظهر الحجاج وهيض «1» جناحه فخرج فصعد المنبر ثم خطب الناس. فقال:
أيها الناس، محمدان في يوم واحد! أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة؛ وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى. والجديد أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تدال «2» الأرض منا كما أدلنا منها فتأكل من لحومنا، وتشرب من دمائنا. كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها. ثم نكون كما قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ
«3» . ثم تمثل بهذين البيتين:
عزائي نبيّ الله من كلّ ميّت ... وحسبي ثواب الله من كلّ هالك
إذا ما لقيت الله عنّي راضيا ... فإنّ سرور النّفس فيما هنالك
ثم نزل، وأذن للناس فدخلوا عليه يعزونه. ودخل فيهم الفرزدق. فلما نظر إليه قال: يا فرزدق، أما رثيت محمدا ومحمدا؟ قال: نعم أيها الأمير وأنشد:
لئن جزع الحجّاج، ما من مصيبة ... تكون لمحزون أمضّ وأوجعا.. «4»
.. من المصطفى والمنتقى من نقاية ... جناحاه لمّا فارقاه وودّعا
جناحا عتيق فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا «5»
ولو أنّ يومي جمعتيه تتابعا ... على شامخ صعب الذّرى لتصدّعا
سميّا رسول الله سمّاهما به ... أب لم يكن عند الحوادث أخضعا

قال: أحسنت. وأمر له بصلة. فخرج وهو يقول: والله لو كلّفني الحجاج بيتا سادسا لضرب عنقي قبل أن آتيه به. وذلك أنه دخل ولم يهيء شيئا.






مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید