المنشورات

الحجاج وأسرى الجماجم:

وكان عبد الملك كتب إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، «فمن أقرّ منهم بالكفر بخروجه علينا فخلّ سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فاضرب عنقه» ففعل، فلما عرضهم أتي بشيخ وشاب، فقال للشاب: أمؤمن أنت أم كافر؟
قال: بل كافر: فقال الحجاج: لكن الشيخ لا يرضى بالكفر! فقال له الشيخ: أعن نفسي تخادعني يا حجاج؟ والله لو كان شيء أعظم من الكفر لرضيت به! فضحك الحجاج وخلى سبيلهما.
ثم قدّم إليه رجل، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دين إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. فقال: اضربوا عنقه.
ثم قدّم آخر، فقال له: على دين من أنت؟ قال: على دين أبيك الشيخ يوسف! فقال: أما والله لقد كان صوّاما قوّاما، خلّ عنه يا غلام! فلما خليّ عنه انصرف إليه فقال له: يا حجاج، سألت صاحبي: على دين من أنت؟ فقال: على دين إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين؛ فأمرت به فقتل؛ وسألني: على دين من أنت؟ فقلت:
على دين أبيك الشيخ يوسف، فقلت: أما والله لقد كان صوّاما قوّاما؛ فأمرت بتخلية سبيلي؛ والله لو لم يكن لأبيك من السيئات إلا أنه ولد مثلك لكفاه! فأمر به فقتل.
ثم أتي بعمران بن عصام العنزي، فقال: عمران! قال: نعم. قال: ألم أوفدك على أمير المؤمنين ولا يوفد مثلك؟ قال: بلى. قال: ألم أزوّجك مارية بنت مسمع سيدة قومها ولم تكن لها أهلا؟ قال: بلى. قال: فما حملك على الخروج علينا؟ قال: أخرجني باذان. قال: فأين كنت من حجة أهلك؟ قال: أخرجني باذان. فأمر رجلا فكشف العمامة عن رأسه، فإذا هو محلوق؛ قال: ومحلوق أيضا؟ لا أقالني الله إن لم أقتلك! فأمر به فضرب عنقه، فسأل عبد الملك بعد ذلك عن عمران بن عصام، فقيل له:
قتله الحجاج. فقال ولم؟ قال: بخروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان ينبغي له أن يقتله بعد قوله [فيه] :
وبعثت من ولد الأغرّ معتّب ... صقرا يلوذ حمامه بالعوسج «1»
فإذا طبخت بناره أنضجتها ... وإذا طبخت بغيرها لم تنضج
وهو الهزبر، إذا أراد فريسة ... لم ينجها منه صريخ الهجهج «2»
ثم أتي بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله الشّخّير، وسعيد بن جبير؛ وكان الشعبي ومطرّف يريان التورية، وكان سعيد بن جبير لا يرى ذلك؛ فلما قدّم له الشعبي قال:
أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وأجدب بنا الجناب «1» ، واستحلسنا «2» الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. قال الحجاج: صدق والله، ما برّوا بخروجهم علينا ولا قووا، خلّيا عنه.
ثم قدّم إليه مطرّف بن عبد الله، فقال ل: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: أصلح الله الأمير، إن من شق العصا، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف المسلمين- لجدير بالكفر. فقال: صدق، خليا عنه.
ثم أتي بسعيد بن جبير، فقال له: أنت سعيد بن جبير؟ قال: نعم. قال: لا، بل شقي ابن كسير! قال: أمي أعلم باسمي منك. قال: شقيت وشقيت أمّك. قال:
الشقاء لأهل النار! قال: أكافر أنت أم مؤمن؟ قال: ما كفرت بالله منذ آمنت به.
قال: اضربوا عنقه.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید