المنشورات

أخبار البرامكة

لابن هارون فيهم:
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، حدثني سهل بن هرون، قال: والله إن كانوا سجعوا الخطب، وقرضوا القريض لعيال على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر ابن يحيى؛ ولو كان كلام يتصور درّا، أو يحيله المنطق السري جوهرا، لكان كلامهما والمنتقى من لفظهما؛ ولقد كانا مع هذا عند كلام الرشيد وبديهته وتوقيعاته في كتبه- فدمين «1» عييّين، وجاهليين أمّيين؛ ولقد عمّرت معهم وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهم؛ وهم يرون أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم؛ وأنهم محض الأيام، ولباب «2» الكرام وملح الأنام، عتق «3» منظر وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاعة أنفس، واكتمال خصال؛ حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم والمأثور من خصالهم كثير أيام سواهم من لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصور وانبعاث أهل القبور- حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المرسلين لما باهت «4» إلا بهم، ولا عوّلت إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورونق سياقهم، ومعسول مذاقهم، وبهاء إشراقهم، ونقاوة أعراضهم، وتهذيب أغراضهم، واكتمال الخير فيهم- في جنب محاسن الرشيد كالنقطة في البحر، والخردلة في المهمه «5» القفر.
قال سهل بن هارون: إني لأحصّل أرزاق العامة بين يدي يحيى بن خالد في بناء خلا به داخل سرادقه، وهو مع الرشيد بالرقة وهو يعقدها جملا بكفه، إذ عشيته سآمة فأخذته سنة «1» فغلبته عيناه، فقال: ويحك يا سهل! طرق النوم شفري «2» ، وحلت السّنة جفنيّ، فما ذلك؟ قلت: ضيف كريم، إن قريته روّحك وإن منعته عنّتك، وإن طردته طلبك، وإن أقصيته أدركك، وإن غالبته غلبك! قال: فنام أقلّ من فواق «3» بكية، أو نزع ركيّة «4» ؛ ثم انتبه مذعورا، فقال: يا سهل لأمر ما كان! والله لقد ذهب ملكنا، وولى عزّنا، وانتقصت أيام دولتنا! قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: كأنّ منشدا أنشدني:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر «5»
فأجبته من غير روية ولا إجالة فكرة:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قال: فو الله ما زلت أعرفها منه وأراها ظاهرة فيه إلى الثالث من يومه ذلك فإني لفي مقعدي بين يديه أكتب توقيعات في أسافل كتبه لطلاب الحاجات إليه، قد كلفني إكمال معانيها بإقامة الوزن فيها، إذ وجدت رجلا سعى إليه حتى ارتمى مكبا عليه، فرفع رأسه فقال: مهلا ويحك! ما اكتتم خير ولا استتر شرّ. قال: قتل أمير المؤمنين جعفرا الساعة! قال: أو قد فعل؟ قال: نعم. قال: فما زاد أن رمى القلم من يده، وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة.
قال سهل بن هارون: فلو انكفأت «6» السماء على الأرض ما زاد. فتبرأ منهم الحميم واستبعد عن نسبهم القريب، وجحد ولاءهم المولى واستعبرت لفقدهم الدنيا، فلا لسان يخطر بذكرهم، ولا طرف ناظر يشير إليهم.
يحيى بعد مقتل جعفر:
وضم يحيى بن خالد وقته ذلك الفضل ومحمدا وخالدا بنيه، وعبد الملك ويحيى وخالدا بني جعفر بن يحيى، والعاصي ومزيدا وخالدا ومعمرا بني الفضل بن يحيى، ويحيى وجعفرا وزيدا بني محمد بن يحيى، وإبراهيم ومالكا وجعفرا وعمر ومعمرا بني خالد بن يحيى، ومن لفّ لفهم أو هجس بصدره أمل فيهم.
الرشيد وسهل بعد مقتل جعفر:
[قال سهل] : وبعث إليّ الرشيد، فو الله لقد أعجلت عن النظر، فلبست ثياب أحزاني، وأعظم رغبتي إلى الله إلا راحة بالسيف وألا تعبث بي عبث جعفر، فلما دخلت عليه عرف الذعر في تجرّض «1» ريقي وشخوصي إلى السيف المشهور ببصري فقال: أيها يا سهل، من غمط «2» نعمتي وتعدّى وصيتي وجانب موافقتي أعجلته عقوبتي قال: فو الله ما وجدت جوابها حتى قال: يفرخ روعك ويسكن جأشك وتطيب نفسك وتطمئن حواسّك؛ فإن الحاجة إليك قربت منك، وأبقت عليك بما يبسط منقبضك؛ ويطلق معقولك، فما اقتصر على الإشارة دون اللسان، فإنه الحاكم الفاصل، والحسام الباتر. وأشار إلى مصرع جعفر فقال:
من لم يؤدّبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه
قال سهل: والله ما أعلم أني عييت بجواب أحد قط غير جواب الرشيد يومئذ فما عوّلت في الشكر إلا على تقبيل باطن يديه ورجليه.
ثم قال: اذهب فقد أحللتك محلّ يحيى، ووهبتك ما ضمّنته أفنيته «3» وما حواه سرادقه؛ فاقبض الدواوين، وأحص جباءه وجباء جعفر لنأمرك بقبضه إن شاء الله.
قال سهل: فكنت كمن نشر «1» عن كفن وأخرج من حبس؛ وأحصيت حباءهما فوجدته عشرين ألف ألف دينار، ثم قفلت راجعا إلى بغداد.
وفرّق البرد «2» إلى الأمصار بقبض أموالهم وغلاتهم، وأمر بجيفة جعفر وجثته ففصلت على ثلاثة جذوع: رأسه في جذع على رأس الجسر مستقبل الصّراة «3» ، وبعض جسده على جذع بالجزيرة، وسائره في جذع على آخر الجسر الثاني مما يلي باب بغداد.
فلما دنونا من بغداد، طلع الجسر الذي فيه وجه جعفر، واستقبلنا وجهه واستقبلته الشمس؛ فو الله لخلتها تطلع من بين حاجبيه؛ فأنا عن يمينه وعبد الملك بن الفضل الحاجب عن يساره، فلما نظر إليه الرشيد- وكأنما قنأ «4» شعره وطلى بنور بشره- اربدّ «5» وجهه وأغضى بصره؛ فقال عبد الملك بن الفضل: لقد عظم ذنب لم يسعه أمير المؤمنين! قال الرشيد: من يرد غير مائة يصدر بمثل دائه، ومن أراد فهم ذنبه يوشك أن يقوم على مثل راحلته؛ عليّ بالنضاحات «6» . فنضح عليها حتى احترقت عن آخرها وهو يقول: لئن ذهب أثرك لقد بقي خبرك، ولئن حط قدرك لقد علا ذكرك! قال سهل بن هارون: وأمر بضم أموالهم، فوجد من العشرين ألف ألف التي كانت مبلغ جبايتهم، اثنى عشر ألف ألف مكتوبا على بدرها «7» صكوك مختومة تفسيرها رقيما حبوا بها. فما كان منها حباء على غريبة، أو استطراف ملحة؛ تصدق به يحيى وأثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها، فكان ديوان إنفاق واكتساب فائدة.
وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفا، إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورياشهم والدقيق والجليل من مواهبهم، فإنه لا يوصف أقلّه، ولا يعرف أيسره إلا من أحصى الأعمال وعرف منتهى الآجال.
وأبرزت حرمه إلى دار البانوقة ابنة المهدي؛ فو الله ما علمته عاش ولا عشن إلا من صدقات من لم يزل متصدقا عليه؛ وما رأوا مثل موجدة الرشيد فيما يعلم من ملك قبله على أحد ملكه.
بين أم جعفر والرشيد:
وكانت أم جعفر بن يحيى، وهي فاطمة ابنة محمد بن الحسين بن قحطبة، أرضعت الرشيد مع جعفر؛ لأنه كان ربّي في حجرها وغذي برسلها «1» ، لأن أمه ماتت عن مهده، فكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها والتبرّك برأيها، وكان آلى وهو في كفالتها أن لا يحجبها، ولا استشفعته لأحد إلا شفعها، وآلت عليه أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا لها، ولا شفعت لأحد لغرض دنيا. قال سهل: فكم أسير فكّت، ومبهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرّجت. واحتجب الرشيد بعد قدومه، فطلبت الإذن عليه من دار الباقونة، ومتّت بوسائلها إليه؛ فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها؛ فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد؛ فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب، فقال: ظئر «2» أمير المؤمنين بالباب، في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة أم الواحد! فقال الرشيد:
ويحك يا عبد الملك! أو ساعية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين حافية! قال أدخلها يا عبد الملك، فربّ كبد غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها! قال سهل: فما شككت يومئذ في النجاة بطلبتها، وإسعافها بحاجتها. فدخلت، فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية، قام محتفيا حتى تلقّاها بين عمد المجلس، وأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها؛ ثم أجلسها معه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أيعدو علينا الزمان ويجفونا خوفا لك الأعوان، ويحردك «1» عنا البهتان وقد ربيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل: فآيسني من رأفته، بتركه كنيتها آخرا ما كان أطمعني من برّه بها أولا، قالت: ظئرك «2» يحيى وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرّضه للحتف في شأن موسى أخيه. قال لها: يا أمّ الرشيد، أمر سبق، وقضاء حمّ، وغضب من الله نفذ! قالت: يا أمير المؤمنين، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب، قال: صدقت. فهذا مما لم يمحه الله! فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ قال سهل بن هارون: فأطرق الرشيد مليا، ثم قال:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قال الأول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول الله عز وجل: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
«3» . فأطرق هرون مليا، ثم قال: يا أمّ الرشيد، أقول،
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدّهر تقبل
فقالت: يا أمير المؤمنين، وأقول:
ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك، فانظر أيّ كف تبدّل
قال هارون: رضيت! قالت: فهبه لي يا أمير المؤمنين؛ فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
من ترك شيئا لله لم يوجده الله لفقده. فأكب هارون مليا، ثم رفع رأسه يقول: لله الأمر من قبل ومن بعد! قالت: يا أمير المؤمنين، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
«1» ؛ واذكر يا أمير المؤمنين أليّتك «2» . ما استشفعت إلا شفعتني! قال: واذكري يا أم الرشيد أليّتك لا شفعت لمقترف ذنبا.
قال سهل بن هارون: فلما رأته صرّح بمنعها ولاذ عن مطلبها، أخرجت حقا «3» من زبرجدة خضراء فوضعته بين يديه؛ فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قفلا من ذهب فأخرجت منه قميصه وذوائبه «4» وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك؛ فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك. فأخذ هارون ذلك فلثمه، ثم استعبر وبكى بكاء شديدا، وبكى أهل المجلس، ومر البشير إلى يحيى وهو لا يظن إلا أن البكاء رحمة له ورجوع عنه، فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحقّ، وقال لها: لحسنا ما حفظت الوديعة! قالت: وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين! فسكت وأقفل الحق ودفعه إليها، وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
«5» . قالت: والله يقول: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
«6» . ويقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ
«7» . قال: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمت لي به أن لا تحجبني ولا تجبهني قال: أحب يا أم الرشيد أن تشتريه محكّمة فيه. قالت: أنصفت يا أمير المؤمنين، وقد فعلت غير مستقيلة لك، ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمن لم يسخطك! قال: يا أم الرشيد، أمالي عليك من الحق مثل الذي لهم؟ فتحكّمي في تمنية بغيرهم. قالت: بلى قد وهبتكه وجعلتك في حلّ منه؟ وقامت عنه، وبقي مبهوتا ما يحير لفظه. قال سهل:
وخرجت فلم تعد، ولا والله ما رأيت لها عبرة ولا سمعت لها أنّة.
قال سهل: وكان الأمين محمد بن زبيدة رضيع يحيى بن جعفر، فمتّ «1» إليه يحيى ابن خالد بذلك، فوعده استيهاب أمّه إياهم وتكلمها فيهم؛ ثم شغله اللهو عنهم، فكتب إليه يحيى، ويقال: إنها لسليمان الأعمى أخي مسلم بن الوليد، وكان منقطعا إلى البرامكة- يقول:
يا ملاذي وعصمتي وعمادي ... ومجيري من الخطوب الشّداد
بك قام الرّجاء في كلّ قلب ... زاد فيه البلاء كلّ مزاد
إنما أنت نعمة أعقبتها ... نعم نفعها لكلّ العباد
وعد مولاك أتممنه فأبهى الدّ ... رّ ما زيد حسنه بانعقاد
ما أظلّت سحائب اليأس إلّا ... كان في كشفها عليك اعتمادي
إن تراخت يداك عني فواقا ... أكلتني الأيام أكل الجراد «2»
وبعث بها الأمين محمد، فبعث بها الأمين محمد إلى أمه زبيدة، فأعطتها هارون وهو في موضع لذته وعند إقبال أريحيّته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وعبّأت جواريها ومغنّياتها وأمرتهن بالقيام معها إذا قامت؛ فلما فرغ الرشيد من قراءتها لم ينقض حبوته حتى وقّع في أسفلها: عظم ذنبك أمات خواطر العفو عنك! ورمى بها إلى زبيدة، فلما رأت توقيعه علمت أنه لا يرجع عنه.
الرشيد وإسحاق بن علي في البرامكة:
وقال بعض الهاشميين: أخبرني إسحاق بن علي بن عبد الله بن العباس، قال: كنت أساير الرشيد يوما والأمين عن يمينه والمأمون عن شماله؛ فاستدناني وقدّمهما أمامه، فسايرته، فجعل يحدثني، ثم بدأ يشاورني في أمر البرامكة، وأخبرني بما أضمر عليه لهم، فإنهم استوحشوه من أنفسهم، وإني عنده بالموضع الذي لا يكتمني شيئا من أمرهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تنقلني من السّعة إلى الضيق! فقال الرشيد: إلا أن تقول؛ فإني لا أتهمك في نصيحة ولا أخافك على رأي ولا مشورة! فقلت: يا أمير المؤمنين، إني أرى نفاستك عليهم بما صاروا إليه من النعمة والسّعة، ولك أن تأمر وتنهى، وهم عبيد لك بإنباتك إياهم؛ فهل ذلك كلّه إلا بك؟ - قال: وكنت أحطب في حبال البرامكة- فقال لي: فضياعهم ليس لولدي مثلها وتطيب نفسي بذلك لهم! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الملك لا تحسد، ولا يحقد، ولا ينعم نعمة ثم يفسد نعمته. قال: فرأيته قد كره قولي وزوى «1» وجهه عني.
قال إسحاق: فعلمت أنه سيوقع بهم، ثم انصرفت فكتمت الخبر فلم يسمع به أحد، وتجنبت لقاء يحيى والبرامكة خوفا أن يظن أني أفضي إليهم بسرّه، حتى قتلهم، وكان أشدّ ما كان إكراما لهم؛ وكان قتلهم بعد ست سنين من تاريخ ذلك اليوم.
يحيى ومنكة الهندي:
وكان يحيى بن خالد بن برمك قد اعتلّ قبل النازلة التي نزلت بهم، فبعث إلى منكة الهندي فقال: ماذا ترى في هذه العلة؟ فقال منكة: داء كبير دواؤه يسير، والصبر أيسر؛ وكان متفنّنا. فقال له يحيى: ربما ثقل على السمع «2» خطرة الحق به، وإذا كان ذلك كان الهجر له ألزم من المفاوضة [فيه] . قال منكة: لكنني أرى في الطالع أثرا والأمد فيه قريب، وأنت قسيم في المعرفة، وربما كانت صورة النجم عقيمة لا نتاج لها، ولكن الأخذ بالحزم أوفى لحظّ الطالبين. قال يحيى: الأمور منصرفة إلى العواقب، وما حتم فلا بد أن يقع، والمنعة بمسالمة الأيام نهزة «3» ، فاقصد ما دعوتك له من هذا الأثر الموجود بالمزاج. قال منكة: هي الصفراء مازجتها مائية البلغم، فحدث لذلك ما يحدث من اللهب عند مماسّة رطوبة الماء من الاشتعال؛ فخذ ماء الرمان فدق فيه إهليلجة «1» سوداء تنهضك مجلسا أو مجلسين، ويسكن ذلك التوقد إن شاء الله.
فلما كان من أمرهم ما كان، تلطّف منكة حتى دخل الحبس، فوجد يحيى قاعدا على لبد، والفضل بين يديه يخدمه، فاستعبر منكة باكيا، وقال: كنت ناديت لو أسرعت الإجابة. قال له يحيى: أتراك كنت علمت من ذلك شيئا جهلته؟ قال: كلا كان الرجاء للسلامة بالبراءة من الذنب أغلب من الشّفق «2» ، وكانت مزايلة القدر الخطير عنا أقل ما تنقض تنهض به التّهمة، فقد كانت نقمة أرجو أن يكون أوّلها صبرا، وآخرها أجرا. قال: فما تقول في هذا الداء؟ قال: منكة: ما أرى له دواء أنفع من الصبر، ولو كان يفدى بمال أو بمفارقة عضو كان ذلك مما يجب. لك. قال يحيى: قد شكرت لك ما ذكرت، فإن أمكنك تعاهدنا فافعل. قال منكة: لو أمكنني تخليف الروح عندك ما بخلت به، فإنما كانت الأيام تحسن بسلامتك.
وكتب يحيى بن خالد في الحبس إلى هارون الرشيد:
من يحيى في حبسه إلى الرشيد:
لأمير المؤمنين، وخليفة المهدّيين، وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوبقته «3» عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، ومال به الزمان، ونزل به الحدثان «4» ، [فحلّ في الضّيق بعد السعة] وعالج البؤس بعد الدّعة «5» وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهاد بعد الهجود «6» ، ساعته شهر، وليلته دهر، وقد عاين الموت، وشارف الفوت «1» ، جزعا لموجدتك يا أمير المؤمنين، وأسفا على ما فات من قربك، لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك، وبك وكانا في يديّ عارية، والعارية مردودة؛ وأما ما أصبت به من ولدي فبذنبه، ولا أخشى عليك الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجاوزت به فوق حده.
تفكّر في أمري، جعلني الله فداك، وليمل هواك بالعفو عن ذنب إن كان فمن مثلي الزلل ومن مثلك الإقالة «2» ؛ وإنما أعتذر إليك بإقرار ما يجب به الإقرار حتى ترضي، فإذا رضيت رجوت إن شاء الله أن يتبين لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعده ذنب أن تغفره. مدّ الله لي في عمرك وجعل يومي قبل يومك! وكتب إليه بهذه الأبيات:
قل للخليفة ذي الصّنيعة ... والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قريش ... والملوك العاليه
إنّ البرامكة الذين ... رمو لديك بداهيه
صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلة باديه
فكأنهم ممّا بهم ... أعجاز نخل خاويه «3»
عمّتهم لك سخطة ... لم تبق منهم باقيه
بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه
ومنازل كانت لهم ... فوق المنازل عاليه
أضحوا وجلّ مناهم ... منك الرّضا والعافيه
يا من يودّ لي الرّدى ... يكفيك مني ما بيه «4»
يكفيك ما أبصرت من ... ذلّي وذلّ مكانيه
وبكاء فاطمة الكئيبة ... والمدامع جاريه
ومقالها بتوجّع ... يا سوأتي وشقائيه
من لي وقد غضب الزّما ... ن على جميع رجاليه
يا لهف نفسي لهفها ... ما للزّمان وماليه
يا عطفة الملك الرّضا ... عودي علينا ثانيه
فلم يكن له جواب من الرشيد.
عهد يحيى إلى الرشيد:
واعتلّ يحيى في الحبس، فلما أشفى «1» دعا برقعة فكتب في عنوانها: ينفذ أمير المؤمنين عهد مولاه يحيى بن خالد. وفيها مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم. قد تقدّم الخصم إلى موقف الفصل، وأنت على الأثر، والله حكم عدل، وستقدم فتعلم.
فلما ثقل «2» قال للسبحان: هذا عهدي توصّله إلى أمير المؤمنين، فإنه وليّ نعمتي، وأحق من نفّذ وصيتي.
فلما مات يحيى أوصل السجان عهده إلى الرشيد.
جواب الرشيد:
قال سهل بن هارون: وأنا عند الرشيد إذ وصلت الرقعة إليه، فلما قرأها جعل يكتب في أسفلها ولا أدري لمن الرقعة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ألا أكفيك؟
قال: كلا، إني أخاف عادة الراحة أن تقوّي سلطان العجز! فيحكم بالغفلة ويقضي بالبلادة! ووقع فيها: الحكم الذي رضيت به في الآخرة لك هو أعدى الخصوم عليك، وهو من لا ينقض حكمه، ولا يردّ قضاؤه. قال: ثم رمى بالصك إليّ فلما رأيته علمت أنه ليحيى، وأن الرشيد أراد أن يؤثر الجواب عنه.
وقال دعبل يرثي بني برمك:
ولمّا رأيت السيف جلّل جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى «1»
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدّنيا
وقال سليمان الأعمى يرثي بني برمك:
هدا الخالون عن شجوى وناموا ... وعيني لا يلائمها المنام «2»
وما سهرى بأني مستهام ... إذا سهر المحبّ المستهام
ولكنّ الحوادث أرّقتتى ... فبي أرق إذا هجع النّيام
أصبت بسادة كانوا عيونا ... بهم نسقى إذا انقطع الغمام «3»
فقلت وفي الفؤاد ضريم نار ... وللعبرات من عيني انسجام
على المعروف والدنيا جميعا ... ودولة آل برمك السّلام
جزعت عليك يا فضل بن يحيى ... ومن يجزع عليك فلا يلام
هوت بك أنجم المعروف فينا ... وعزّ بفقدك القوم اللثام
وما ظلم الإله أخاك لكن ... قضاء كان سبّبه اجترام «4»
عقاب خليفة الرّحمن فخر ... لمن بالسيف صبّحه الحمام
عجبت لما دها فضل بن يحيى ... وما عجبي وقد غضب الإمام
جرى في الليل طائرهم بنحس ... وصبّح جعفرا منه اصطلام «5»
ولم أر قبل قتلك يا بن يحيى ... حساما قده السيف الحسام
برين الحادثات له سهاما ... فغالته الحوادث والسّهام «6»
ليهن الحاسدين بأنّ يحيى ... أسير لا يضيم ويستضام
وأنّ الفضل بعد رداء عزّ ... غدا ورداؤه ذال ولام «1»
فقل للشّامتين بهم جميعا ... لكم أمثالها عام فعام
أمين الله في الفضل بن يحيى ... رضيعك والرّضيع له ذمام
أبا العبّاس، إنّ لكلّ همّ ... وإن طال انقراض وانصرام
أرى سبب الرّضاء له قبول ... على الله الزّيادة والتّمام
وقد آليت فيه بصوم شهر ... فإن تمّ الرّضا وجب الصّيام
وقد آليت معتزما بنذر ... ولي فيما نذرت به اعتزام
بأن لا ذقت بعدكم مداما ... وموتي أن يفارقني المدام
أألهوا بعدكم وأقرّ عينا؟ ... عليّ اللهو بعدكم حرام
وكيف يطيب لي عيش! وفضل ... أسير دونه البلد الشّآم
وجعفر ثاويا بالجسر أبلت ... محاسنه السمائم والقتام «2»
أمرّ به فيغلبني بكائي ... ولكنّ البكاء له اكتتام
أقول وقمت منتصبا لديه ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لثمنا ركن جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
وقال بعض الشعراء يغري هارون ببني برمك:
قل للخليفة باكتفائه ... دون الأنام بحسن رائه
إمّا بدأت بجعفر ... فاسق البرامك من إنائه
ما برمكي بعده ... تقف الظنون على وفائه
إني وقصد البرمكيّ ... إلى انتكاث من شقائه «3»
فلقد رفعت لجعفر ... ذكرين قلّا في جزائه
فارفع ليحيى مثله ... ما العود إلا من لحائه
واخضب بصدر مهنّد ... عثنون يحيى من دمائه «1»
ابن المهدي وجعفر وعبد الملك:
إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحيى يوما: إنني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة، وأردت أن أخلو بنفسي وأفرّ من أشغال الناس وأتوحّد، فهل أنت مساعدي؟ قلت: جعلني الله فداك، أنا أسعد بمساعدتك وآنس بمخالاتك. فقال:
بكّر إليّ بكور الغراب. قال: فأتيت عند الفجر الثاني فوجدت الشمعة بين يديه وهو قاعد ينتظرني للميعاد. قال: فصلينا ثم أفضنا في الحديث، حتى أتى وقت الحجامة، فأتى الحجّام، فحجمنا في ساعة واحدة، ثم قدّم إلينا الطعام فطعمنا فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب المنادمة وضمخنا بالخلوق «2» ، وظللنا بأسرّ يوم مرّ بنا؛ ثم إنه تذكر حاجة، فدعا الحاجب فقال له: إذا جاء عبد الملك القهرمان «3» فأذن له. فنسي الحاجب وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي على جلالته وسنّه وقدره وأدبه، فأذن له الحاجب، فما راعنا إلا طلعة عبد الملك بن صالح، فتغيّر لذلك وجه جعفر بن يحيى، وتنغّص عليه ما كان فيه؛ فلما نظر إليه عبد الملك على تلك الحالة، دعا غلامه، فدفع إليه سيفه وسواده وعمامته، ثم جاء فوقف على باب المجلس، فقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم! قال: فجاء الغلام فطرح عليه ثياب المنادمة؛ ودعا بطعام فطعم؛ ثم دعا بالشراب فشرب ثلاثا، ثم قال: ليخفّف عني، فإنه شيء ما شربته قط! فتهلل وجه جعفر فرحا، وقد كان الرشيد حاور عبد الملك على المنادمة فأبى ذلك وتنزّه عنه؛ ثم قال له جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك؛ قد تفضلت وتطوّلت «4» ، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي، وتحيط بها نعمتي، فأقضيها لك مكافأة لما صنعت؟ قال: بلى، إن قلب أمير المؤمنين عاتب عليّ، فتسأله الرضا عني. فقال قد رضي عنك أمير المؤمنين! ثم قال [عبد الملك] : وعليّ أربعة آلاف دينار. قال: هي حاضرة، ولكن من مال أمير المؤمنين أحبّ إليّ من مالي. قال: وابني إبراهيم أحبّ أن أشدّ ظهره بمصاهرة أمير المؤمنين. قال: قد زوّجه أمير المؤمنين ابنته عائشة الغالية. قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه بولاية. قال: وقد ولاه أمير المؤمنين مصر! قال: فانصرف عبد الملك ونحن نعجب من إقدام جعفر على الرشيد من غير استئذان، فلما كان الغد وقفنا على باب أمير المؤمنين، ودخل جعفر فلم يلبث أن دعا بأبي يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وإبراهيم بن عبد الملك فعقد له النكاح، وحملت البدر إلى عبد الملك، وكتب سجل إبراهيم على مصر؛ وخرج جعفر، فأشار إلينا، فلما صار إلى منزله ونحن خلفه نزل ونزلنا بنزوله، فالتفت إلينا فقال: تعلّقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم أن تعرفوا آخره وإني لمّا دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه سألني عن أمسي، فابتدأت أحدثه بالقصة من أوّلها إلى آخرها، فجعل يقول أحسن والله! أحسن والله! ثم قال: فما أجبته؟ فجعلت أخبره، وهو يقول في كل شيء: أحسنت! وخرج إبراهيم واليا على مصر.















مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید