المنشورات

أبو جعفر وابن حسن:

ثم مات أبو العباس وقام أبو جعفر بالأمر بعده، فبعث بعطاء أهل المدينة وكتب إلى عامله، أن أعط الناس في أيديهم ولا تبعث إلى أحد بعطائه، وتفقّد بني هاشم ومن تخلّف منهم ممن حضر، وتحفظ بمحمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن. ففعل وكتب: إنه لم يتخلف أحد عن العطاء إلا محمد وابراهيم ابنا عبد الله ابن الحسن، فإنهما لم يحضرا. فكتب أبو جعفر إلى عبد الله بن الحسن، وذلك مبدأ سنة تسع وثلاثين ومائة، يسأله عنهما ويأمره بإظهارهما ويخبره أنه غير عاذره. فكتب إليه عبد الله أنه لا يدري أين هما ولا أين توجها. وأن غيبتهما غير معروفة؛ فلم يلبث أبو جعفر- وكان قد أذكى العيون «1» ووضع الأرصاد «2» - حتى جاءه كتاب من بعض ثقاته يخبره أن رسولا لعبد الله ومحمد وإبراهيم خرج بكتب إلى رجال بخراسان يستدعيهم إليهم؛ فأمر أبو جعفر برسولهم فأتى به وبكتبه، فردها إلى عبد الله بن الحسن بطوابعها، لم يفتح منها كتابا، وردّ إليه رسوله وكتب إليه:
إني أتيت برسولك والكتب التي معه فرددتها إليك بطوابعها، كراهية أن أطّلع منهما على ما يغيّر لك قلبي؛ فلا تدع إلى التقاطع بعد التواصل، ولا إلى الفرقة بعد الاجتماع، وأظهر لي ابنيك فإنهما سيصيران بحيث تحب من الولاية والقرابة وتعظيم الشرف.
فكتب إليه عبد الله بن الحسن يعتذر إليه ويتنصل في كتابه، ويعلمه أن ذلك من عدوّ أراد تشتيت ما بينهم بعد التئامه. ثم جاءه كتاب ثقة من ثقاته يذكر أن الرسول بعينه خرج بالكتب بأعيانها على طريق البصرة، وأنه نازل على فلان المهلّبي؛ فإن أراده أمير المؤمنين فليضع عليه رصده. فوضع عليه أبو جعفر رصده، فأتي به إليه ومعه الكتب، فحبس الرسول وأمضى الكتب إلى خراسان مع رسول الله من عنده من أهل ثقاته، فقدمت عليه الجوابات بما كره؛ واستبان له الأمر، فكتب إلى عبد الله بن الحسن يقول:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد «1»
أما بعد فقد قرأت كتبك وكتب ابنيك وأنفذتها إلى خراسان، وجاءتني جواباتها بتصديقها، وقد استقرّ عندي أنك مغيّب لابنيك تعرف مكانهما، فأظهرهما لي، فإن لك عليّ أن أعظم صلتهما وجوائزهما وأضعهما بحيث وضعتهما قرابتهما؛ فتدارك الأمور قبل تفاقمها.
فكتب إليه عبد الله بن الحسن:
وكيف أريد ذاك وأنت منّي ... وزندك حين تقدح من زنادي
وكيف أريد ذاك وأنت مني ... بمنزلة النّياط من الفؤاد «2»
وكتب إليه أنه لا يدري أين توجّها من بلاد الله، ولا يدري أين صاروا، وأنه لا يعرف الكتب ولا يشك أنها مفتعلة.
فلما اختلفت الأمور على أبي جعفر، بعث سلم بن قتيبة الباهلي، وبعث معه بمال وأمره بأمره، وقال له: إني إنما أدخلك بين جلدي وعظمي؛ فلا توطئنّي عشواء «1» ، ولا تخف عني أمرا تعلمه. فخرج سلم بن قتيبة حتى قدم المدينة، وكان عبد الله يبسط له في رخام المنبر في الروضة، وكان مجلسه فيه؛ فجلس إليه وأظهر له المحبة والميل إلى ناحيته؛ ثم قال له حين أنس إليه: إن نفرا من أهل خراسان، وهم فلان وفلان- وسمّى له رجالا يعرفهم ممن كان يكاتب، ممن استقرّ عند أبي جعفر أمرهم- قد بعثوا إليك معي مالا، وكتبوا إليك كتابا فقبل الكتاب والمال، وكان المال عشرة آلاف دينار.
ثم أقام معه ما شاء الله حتى ازداد به أنسا وإليه استنامة «2» ، ثم قال له: إني قد بعثت بكتابين إلى أمير المؤمنين محمد، وإلى وليّ عهده إبراهيم؛ وأمرت أن لا أوصل ذلك إلا في أيديهما، فإن أوصلتني إليهما وأدخلتني عليهما؛ أوصلت إليهما الكتابين والمال، ورحلت إلى القوم بما يثلج صدورهم، وتقبله قلوبهم، فأنا عندهم بموضع الصدق والأمانة، وإن كان أمرهما مظلما؛ وإن لم تكن تعرف مكانهما، لم يخاطروا بدينهم وأموالهم ومهجهم. فلما رأى عبد الله أنّ الأمور تفسد عليه من حيث يرجو صلاحها، [وأنه لا سبيل إلى ما معه] إلا بإيصاله إليهما وإظهارهما له، أوصله- فدفع الكتابين مع أربعين ألف درهم- ثم قال: هذا محمد، وهذا إبراهيم. فقال لهم:
إن من ورائي لم يبعثوني ولهم ورائي غاية، وليس مثلي ينصرف إلى قوم إلا بجملة ما يحتاجون إليه، ومحمد إنما صار إلى هذه الخطة، ووجبت له هذه الدعوة، لقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ وهاهنا من هو أقرب من رسول الله رحما وأوجب حقا منه قال:
ومن هو؟ قال: أنت! إلا أن يكون عند ابنك محمد أثر ليس عندك في نفسك! قال:
فكذلك الأمر عندي. قال له: فإن القوم يقتدون بك في جميع أمورهم، ولا يريدون أن يبذلوا دينهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحجّة يرجون بها لمن قتل منهم الشهادة؛ فإن أنت خلعت أبا جعفر وبايعت محمدا اقتدوا بك، وإن أبيت اقتدوا بك أيضا في تركك ذلك؛ ثقة بك؛ لقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وموضعك الذي وضعك الله فيه. قال: فإني أفعل! فبايع محمدا وخلع أبا جعفر، وبايعه سلم من بعده، وأخذ كتبه وكتب إبراهيم ومحمد، فخرج فقدم على أبي جعفر وقد حضر الموسم، فأخبره بحقيقة الأمر ويقينه.
فلما دخل أبو جعفر المدينة، أرسل إلى بني الحسن فجمعهم، وقال لسلم: إذا رأيت عبد الله عندي فقم على رأسي وأشر إليّ بالسلاح، ففعل، فلما رآه عبد الله سقط «1» في يده وتغيّر وجهه، قال له أبو جعفر: مالك أبا محمد؟ أتعرفه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فأقلني وصلتك رحم! فقال له أبو جعفر: هل علمت أنك تعرف موضع ولديك، وأنه لا عذر لك؟ وقد باح السر؛ فأظهرهما لي، ولك أن أصل رحمك ورحمهما، وأن أعظم ولا يتهما، وأعطى كلّ واحد منهما ألف ألف درهم، فتراجع عبد الله حتى انكفأ «2» على ظهره، وبنو حسن اثنا عشر رجلا، فأمر بحبسهم جميعا.
وخرج أبو جعفر فعسكر من ليلته على ثلاثة أميال من المدينة، وعبّى «3» على القتال، ولم يشكّ أن أهل المدينة سيقاتلونه في بني حسن، فعبّى ميمنة وميسرة وقلبا، وتهيأ للحرب، وأجلس في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم عشرين معطيا يعطون العطايا، فلم يتحرّك عليه منهم أحد ثم مضى بهم إلى مكة.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید