المنشورات

كتاب أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله:

فلما انصرف أبو جعفر إلى العراق، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، فكتب إليه أبو جعفر:
من عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
«1» ولك عهد الله وميثاقه وذمّة الله وذمّة نبيه إن أنتما أتيتما وتبتما ورجعتما من قبل أن أقدر عليكما وأن يقع بيني وبينكما سفك الدماء- أن أؤمّنكما وجميع ولدكما ومن شايعكما وتابعكما على دمائكم وأموالكم، وأسوّغكم «2» ما أصبتم من دم أو مال، وأعطيكما ألف ألف درهم لكل واحد منكما، وما سألتما من الحوائج؛ وأبوّئكما من البلاد حيث شئتما، وأطلق من الحبس جميع ولد أبيكما، ثم لا أتعقب واحدا منكما بذنب سلف منه أبدا؛ فلا تشمت بنا وبك عدوّنا من قريش؛ فإن أحببت أن تتوثّق من نفسك بما عرضت عليك، فوجّه إليّ من أحببت ليأخذ لك من الأمان والعهود والمواثيق. ما تأمن به وتطمئن إليه إن شاء والسلام.
فأجابه محمد بن عبد الله: من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين، إلى عبد الله ابن محمد:
طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ
«3» . وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضت؛ فإنّ الحق معنا، وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم إليه بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا، وإن أبانا عليّا رحمه الله كان الإمام؛ فكيف ورثتم ولاية ولده، وقد علمتم أنه لم يطلب هذا الأمر أحد بمثل نسبنا ولا شرفنا، وأنا لسنا من أبناء الظّئار «4» . ولا من أبناء الطلقاء «5» ؛ وأنه ليس يمتّ أحد بمثل ما نمتّ به من القرابة والسابقة والفضل، وأنّا بنو أمّ أبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو فاطمة ابنته في الإسلام دونكم؛ وإن الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين أفضلهم. ومن السلف أوّلهم إسلاما عليّ بن أبي طالب، ومن النساء أفضلهنّ خديجة بنت خويلد، أول من صلى إلى القبلة منهنّ، ومن البنات فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ولدت الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنة صلوات الله عليهما؛ وإنّ هاشما ولد عليّا مرتين، وإنّ عبد المطلب ولد حسنا مرتين، وإن النبي صلّى الله عليه وسلم ولدني مرتين، وإني من أوسط «1» بني هاشم نسبا وأشرفهم أبا وأمّا، ولم تعرق «2» فيّ العجم، ولم تنازع فيّ أمّهات الأولاد؛ فما زال الله بمنّه وفضله يختار لي الأمّهات في الجاهلية والإسلام، حتى اختار لي في النار. فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، ومن أهونهم عذابا في النار، وأبي خير أهل الجنة، وأبي خير أهل النار؛ فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار؛ فلك الله إن دخلت في طاعتي، وأحببت دعوتي، أن أؤمّنك على نفسك ومالك ودمك وكلّ أمر أحدثته، إلا حدّا من حدود الله، أو حقّ امريء مسلم أو معاهد؛ فقد علمت ما يلزمك في ذلك؛ وأنا أولى بالأمر منك، وأوفى بالعهد؛ لأنك لا تعطي من العهد أكثر مما أعطيت رجالا قبلي؛ فأيّ الأمانات تعطيني؟ أمان ابن هبيرة؟ أو أمان عمك عبد الله بن علي؟ أو أمان أبي مسلم؟ والسلام.
فكتب إليه أبو جعفر المنصور:
من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حسن: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت كلامك؛ فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء، لتضلّ به الغوغاء «3» ، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء؛ لأن الله جعل العم أبا، وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى.
ولو كان اختيار الله لهنّ على قدر قرابتهنّ، لكانت آمنة أقربهنّ رحما، وأعظمهنّ حقا، وأول من يدخل الجنة غدا؛ ولكن اختيار الله لخلقه على قدر علمه الماضي لهنّ؛ فأما ما ذكرت من فاطمة جدّة النبي صلّى الله عليه وسلم وولادتها لك، فإن الله لم يرزق أحدا من ولدها دين الإسلام، ولو أن أحدا من ولدها رزق الإسلام بالقرابة لكان عبد الله ابن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة؛ ولكن الأمر لله، يختار لدينه من يشاء، وقد قال جل ثناؤه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
«1» . وقد بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلم وله عمومة أربعة، فأنزل الله عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
«2» ؛ فدعاهم فأنذرهم؛ فأجابه اثنان، أحدهما أبي، وأبى عليه اثنان، أحدهما أبوك؛ فقطع الله ولايتهما منه، ولم يجعل بينهما إلّا «3» ولا ذمّة ولا ميراثا.
وقد زعمت أنك ابن أخف أهل النار عذابا، وابن خير الأشرار؛ وليس في الشر خيار، ولا فخر في النار، وسترد فتعلم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«4» .
وأمّا ما فخرت به من فاطمة أمّ عليّ، وأنّ هاشما ولد عليّا مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولا عبد المطلب إلا مرة.
وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسبا، وأكرمهم أبا وأما، وأنك لم تلدك العجم، ولم تعرق فيك أمّهات الأولاد؛ فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرّا «5» ، فانظر أين أنت- ويحك- من الله غدا؟ فإنك قد تعديت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا؛ فخرت على إبراهيم ولد النبي صلّى الله عليه وسلم، وهل خيار ولد أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد؟ وما ولد منكم بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفضل من عليّ ابن الحسين وهو لأمّ ولد، وهو خير من جدك حسن بن حسن، وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن على وجدّته أمّ ولد، وهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر، وهو خير منك، وجدّته أم ولد.
وأما قولك: إنا بنو رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فإن الله يقول: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ
«1» ؛ ولكنكم بنو ابنته، وهي امرأة لا تحوز ميراثا، ولا ترث الولاية، ولا يحل لها أن تؤمّ؛ فكيف تورث بها إمامة؟ ولقد ظلمها أبوك بكل وجه؛ فأخرجها نهارا، ومرضها سرا، ودفنها ليلا؛ فأبى الناس إلا الشيخين لتفضيلهما؛ ولقد كانت السّنة التي لا اختلاف فيها أن الجدّ أبا الأم والخال والخالة، لا يرثون.
وأما ما فخرت به من عليّ وسابقته، فقد حضرت النبي صلّى الله عليه وسلم الوفاة، فأمر غيره بالصلاة، ثم أخذ الناس رجلا بعد فما أخذوه؛ وكان في الستة من أصحاب الشورى، فتركوه كلهم؛ رفضه عبد الرحمن بن عوف، وقاتله طلحة والزبير، وأبي سعد بيعته وأغلق بابه دونه وبايع معاوية بعده؛ ثم طلبها بكل وجه، فقاتل عليها، ثم حكم الحكمين ورضي بهما وأعطاهما عهد الله وميثاقه، فاجتمعا على خلعه واختلفا في معاوية؛ ثم قام جدك الحسن فباعها بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمور إلى غير أهلها، وأخذ مالا من غير ولائه؛ فإن كان لكم فيها حق فقد بعتموه وأخذتم ثمنه؛ ثم خرج عمك الحسين على بن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه؛ ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان، حتى قتل يحيى بن زياد بأرض خراسان، وقتلوا رجالكم وأسروا الصّبية والنساء وحملوهم كالسبي المجلوب إلى الشام.
حتى خرجنا عليهم، فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضهم وديارهم وأموالهم؛ وأردنا إشراككم في ملكنا، فأبيتم إلا الخروج علينا؛ وظننت ما رأيت ذكرنا أباك وتفضيلنا إياه، لتقدّمه على العباس وحمزة وجعفر، وليس كما ظننت، ولكن هؤلاء سالمون، مسلّم منهم مجتمع بالفضل عليهم، وابتلى بالحرب أبوك، فكانت بنو أمية تلعنه على المنابر كما تلعن أهل الكفر في الصلاة المكتوبة؛ فاحتجينا له، وذكرنا فضله، وعنّفناهم، وظلمناهم فيما نالوا منه.
وقد علمت أن المكرمة في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعباس من بين إخوته، وقد نازعنا فيها أبوك فقضى لنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، وقد علمت أنه لم يبق أحد من بعد النبي صلّى الله عليه وسلم من بني عبد المطلب غير العباس وحده، فكان وارثه من بين إخوته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايتنا، وميراث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ميراثنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبق فضل ولا شرف في الجاهلية والإسلام إلا والعباس وارثه ومورّثه، والسلام.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید