المنشورات

فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

ابن هشام وشيخ في علي ابن أبي طالب:
عوانة بن الحكم قال: حج محمد بن هشام، ونزلت رفقه، فإذا فيها شيخ كبير قد احتوشه «1» الناس وهو يأمر وينهى؛ فقال محمد بن هشام لمن حوله: تجدون الشيخ عراقيا فاسقا! فقال له بعض أصحابه: نعم، وكوفيا منافقا! فقال محمد، عليّ به. فأتي بالشيخ، فقال له: أعراقيّ أنت؟ قال له: نعم عراقي. قال: وكوفيّ؟ قال: وكوفي.
قال: وترابيّ؟ قال: وترابي، من التراب خلقت، وإليه أصير. قال: أنت ممن يهوى أبا تراب؟ قال: ومن أبو تراب؟ قال: عليّ بن أبي طالب. قال: أتعني ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة ابنته، وأبا الحسن والحسين؟ قال: نعم، فما قولك فيه؟ قال:
قد رأيت من يقول خيرا ويحمد، ورأيت من يقول شرا ويذم. قال: فأيهما أفضل عندك: أهو أم عثمان؟ قال: وما أنا وذاك؟ والله لو أن عليا جاء بوزن الجبال حسنات ما نفعني، ولو جاء بوزنها سيئات ما ضرّني؛ وعثمان مثل ذلك. قال: فاشتم أبا تراب! قال: أو ما ترضى مني بما رضي به من هو خير منك ممن هو خير مني فيمن هو شر من عليّ؟ قال: وما ذاك؟ قال: رضيّ الله وهو خير منك، من عيسى وهو خير مني، في النصارى وهم شر من عليّ، إذ قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
«2» .
حمزة وابن له في علي:
الرياشي قال: انتقص ابن لحمزة بن عبد الله بن الزبير عليا، فقال له أبوه: يا بني إنه والله ما بنت الدنيا شيئا إلا هدمه الدّين، وما بنى الدين شيئا فهدمته الدنيا؛ أما ترى عليا وما يظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر فكأنما والله يأخذون بناصيته رفعا إلى السماء، وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس؛ فكأنما يكشفون عن الجيف!
الوليد وشعر الفضل في علي:
قدم الوليد مكة فجعل يطوف بالبيت والفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يستقي من زمزم وهو يقول:
يأيها السائل عن عليّ ... تسأل عن بدر لنا بدريّ
مردّد في المجد أبطحيّ ... سائلة غرّته مضيّ «1»
فلم ينكر عليه أحد.
لمسلمة في جعفر:
العتبي قال: قيل يوما لمسلمة بن هلال العبدي: خطب جعفر بن سليمان الهاشمي خطبة لم يسمع مثلها قط، وما درينا أوجهه كان أحسن أم كلامه! قال: أولئك قوم بنور الخلافة يشرقون «2» ، وبلسان النبوّة ينطقون.
وكتب عوام صاحب أبي نواس إلى بعض عمال ديار ربيعة:
بحقّ النبيّ بحق الوصيّ ... بحق الحسين بحق الحسن
بحق التي ظلمت حقّها ... ووالدها خير ميت دفن
ترفّق بأرزاقنا في الخرا ... ج بترفيهها وبحطّ المؤن
قال: فأسقط عنه الخراج طول ولايته.
احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل عليّ
إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل عن حماد بن زيد قال: بعث إليّ يحيى بن أكثم وإلى عدّة من أصحابي، وهو يومئذ قاضي القضاة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أحضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه «1» ما يقال له ويحسن الجواب؛ فسمّوا من تظنّونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين. فسمّينا له عدة، وذكر هو عدة، حتى تم العدد الذي أراد، وكتب تسمية القوم، وأمر بالبكور «2» في السحر، وبعث إلى من لم يحضر، فأمره بذلك؛ فغدونا عليه قبل طلوع الفجر، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا، فركب وركبنا معه حتى صرنا إلى الباب، فإذا بخادم واقف؛ فلما نظر إلينا قال: يا أبا محمد، أمير المؤمنين ينتظرك.
فأدخلنا، فأمرنا بالصلاة فأخذنا فيها، فلم نستتم حتى خرج الرسول فقال: ادخلوا.
فدخلنا فإذا أمير المؤمنين جالس على فراشه، وعليه سواده وطيلسانه «3» والطويلة وعمامته، فوقفنا وسلّمنا، فردّ السلام وأمر لنا بالجلوس، فلما استقرّ بنا المجلس انحدر عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته «4» ، ثم أقبل علينا فقال: إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك، وأما الخفّ فمنع من خلعه علة، من قد عرفها منكم فقد عرفها، ومن لم يعرفها فسأعرّفه بها. ومدّ رجله وقال: انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم. قال: فأمسكنا، فقال لنا يحيى: انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين. فتنحينا فنزعنا أخفافنا وطيالستنا وقلانسنا ورجعنا؛ فلما استقر بنا المجلس قال: إنما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة، فمن كان به شيء من الأخبثين «5» لم ينتفع بنفسه ولم يفقه ما يقول؛ فمن أراد منكم الخلاء فهناك. وأشار بيده، فدعونا له. ثم ألقى مسألة من الفقه، فقال: يا محمد، قل، وليقل القوم من بعدك. فأجابه يحيى، ثم الذي يلي يحيى، ثم الذي يليه، حتى أجاب آخرنا، في العلة وعلة العلة؛ وهو مطرق لا يتكلم، حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى فقال: يا أبا محمد، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم يزل يردّ على كل واحد منا مقالته، ويخطّىء بعضنا ويصوّب بعضنا؛ حتى أتى على آخرنا، ثم قال: إني لم أبعث فيكم لهذا، ولكنني أحببت أن أنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين الله به. قلنا: فليفعل أمير المؤمنين وفقه الله. فقال: إن أمير المؤمنين يدين الله على أنّ عليّ بن أبي طالب خير خلق الله بعد رسوله صلّى الله عليه وسلم وأولى الناس بالخلافة له. قال إسحاق: فقلت يا أمير المؤمنين، إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في عليّ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة. فقال يا إسحاق، اختر، إن شئت سألتك أسألك، وإن شئت أن تسأل فقل. قال إسحاق: فاغتنمتها منه، فقلت: بل أسألك يا أمير المؤمنين. قال: سل. قلت: من أين قال أمير المؤمنين إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهم بالخلافة بعده؟ قال: يا إسحاق، خبّرني عن الناس: بم يتفاضلون حتى يقال فلان أفضل من فلان؟ قلت:
بالأعمال الصالحة: قال: صدقت، قال: فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأفضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله- أيلحق به؟ قال: فأطرقت، فقال لي: يا إسحاق، لا تقل نعم؛ فإنك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة. فقلت أجل يا أمير المؤمنين، لا يلحق المفضول على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم الفاضل أبدا. قال: يا إسحاق، فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل عليّ بن أبي طالب؛ فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر، فإن رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل علي، فقل إنه أفضل منه، لا والله، ولكن فقس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر، فإن وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده، فقل إنهما أفضل منه؛ ولا والله، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان، فإن وجدتها مثل فضائل عليّ، فقل إنهم أفضل منه؛ لا والله، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه.
قال: يا إسحاق، أيّ الأعمال كانت أفضل يوم بعث الله رسوله؟ قلت:
الإخلاص بالشهادة. قال: أليس السبق إلى الإسلام؟ قلت: نعم. قال: اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
«1» ، إنما عنى من سبق إلى الإسلام، فهل علمت أحدا سبق عليّا إلى الإسلام؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم. قال: أخبرني أيهما أسلم قبل، ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال. قلت: عليّ أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة. فقال: نعم، فأخبرني عن إسلام عليّ حين أسلم: لا يخلو من أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، أو يكون إلهاما من الله؟ قال: فأطرقت؛ فقال لي: يا إسحاق؛ لا تقل إلهاما فتقدّمه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّ رسول الله لم يعرف الإسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى.
قلت: أجل، بل دعاه رسول الله إلى الإسلام. قال: يا إسحاق فهل يخلو رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام من أن يكون دعاه بأمر الله أو تكلّف ذلك من نفسه؟
قال: فأطرقت، فقال: يا إسحاق، لا تنسب رسول الله إلى التكلف؛ فإن الله يقول:
وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ
«2» . قلت: أجل يا أمير المؤمنين، بل دعاه بأمر الله. قال:
فهل من صفة الجبار جل ثناؤه أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟ قلت:
أعوذ بالله! فقال: أفتراه في قياس قولك يا إسحاق: «إن عليا أسلم صبيّا لا يجوز عليه الحكم» قد كلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من دعاء الصبيان ما لا يطيقون، فهو يدعوهم الساعة ويرتدّون بعد ساعة، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شيء ولا يجوز عليهم حكم الرسول عليه السلام، أترى هذا جائزا عندك أن تنسبه إلى الله عزّ وجلّ؟ قلت: أعوذ بالله! قال: يا إسحاق، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضّل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّا على هذا الخلق، أبانه بها منهم ليعرف مكانه وفضله، ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟ قلت: بلى. قال: فهل بلغك أن الرسول صلّى الله عليه وسلم دعا أحدا من الصبيان من أهله وقرابته- لئلا تقول إن عليا ابن عمه-؟ قلت: لا أعلم ولا أدري فعل أو لم يفعل. قال: يا إسحاق، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسأل عنه؟ قلت: لا. قال: فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك.
قال: ثم أيّ الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟ قلت: الجهاد في سبيل الله. قال: صدقت، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما تجد لعلي في الجهاد؟ قلت: في أي وقت؟ قال: في أي الأوقات شئت! قلت: بدر؟ قال: لا أريد غيرها؛ فهل تجد لأحد إلا دون ما تجد لعليّ يوم بدر؟ أخبرني: كم قتلى بدر؟ قلت:
نيف وستون رجلا من المشركين. قال: فكم قتل عليّ وحده؟ قلت: لا أدري.
قال: ثلاثة وعشرين، أو اثنين وعشرين؛ والأربعون لسائر الناس. قلت: يا أمير المؤمنين كان أبو بكر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عريشه «1» . قال: يصنع ماذا؟ قلت:
يدبّر، قال: ويحك! يدبّر دون رسول الله أو معه شريكا، أو افتقارا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟ قلت: أعوذ بالله أن يدبر أبو بكر دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يكون معه شريكا، أو أن يكون برسول الله صلّى الله عليه وسلم افتقار إلى رأيه.
قال: فما الفضيلة بالعريش إذا كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممن هو جالس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، كلّ الجيش كان مجاهدا.
قال: صدقت، كل مجاهد؛ ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن الجالس، أفضل من الجالس؛ أما قرأت كتاب الله: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
«2» . قلت: وكان أبو بكر وعمر مجاهدين قال:
فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟ قلت: نعم. قال:
فكذلك! سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر، قلت: أجل.
قال: يا إسحاق، هل تقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: اقرأ عليّ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
«1» فقرأت منها حتى بلغت:
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً
«2» إلى قوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
«3» قال: على رسلك؛ فيمن أنزلت هذه الآيات؟ قلت:
في عليّ. قال: فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والأسير. قال إنما نطعمكم لوجه الله؟ وهل سمعت الله وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليا؟ قلت: لا. قال: صدقت! لأن الله جل ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق، ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين. قال: أرأيت لو أنّ رجلا قال: والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا، ولا أدري إن كان رسول الله قاله أم لم يقله: أكان عندك كافرا؟ قلت: أعوذ بالله! قال: أرأيت لو أنه قال: ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا، كان كافرا؟ قلت: نعم. قال: يا إسحاق، أرى بينهما فرقا. يا إسحاق، أتروي الحديث؟ قلت: نعم. قال: فهل تعرف حديث الطير؟ قلت: نعم. قال: فحدّثني به. قال: فحدّثته الحديث، فقال: يا إسحاق، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق، فأمّا الآن فقد بان لي عنادك؛ إنك توقن أن هذا الحديث صحيح. قلت: نعم؛ رواه من لا يمكنني ردّه. قال: أفرأيت من أيقن أن هذا الحديث صحيح، ثم زعم أن أحدا أفضل من عليّ- لا يخلو من إحدى ثلاثة:
من أن تكون دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنده مردودة عليه، أو أن يقول عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه، أو أن يقول إن الله عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول؛ فأي الثلاثة أحب إليك أن تقول؟ فأطرقت ... ثم قال: يا إسحق، لا تقل منها شيئا؛ فإنك إن قلت منها شيئا استنبتك «4» ؛ وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله. قلت: لا أعلم، وإن لأبي بكر فضلا. قال:
أجل، لولا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه؛ فما فضله الذي قصدت له الساعة؟ قلت: قول الله عز وجل: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا
«1» ؛ فنسبه إلى صحبته. قال: يا إسحاق، أما إني لا أحملك على الوعر من طريقك؛ إني وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضي عنه كافرا، وهو قوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً
«2» . قلت:
إن ذلك صاحب كان كافرا، وأبو بكر مؤمن. قال: فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة من رضيه كافرا، جاز أن ينسب إلى صحبة نبيه مؤمنا، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث. قلت: يا أمير المؤمنين، إن قدر الآية عظيم، إن الله يقول: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا
«3» ! قال: يا إسحاق، تأبى الآن إلا أن أخرج إلى الاستقصاء عليك! أخبرني عن حزن أبي بكر: أكان رضا أم سخطا؟ قلت: إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم خوفا عليه وغما، أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جوابي، إنما كان جوابي أن تقول: رضا، أم سخط. قلت: بل كان رضا لله. قال: فكأن الله جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهى عن رضا الله عز وجل وعن طاعته! قلت: أعوذ بالله! قال: أوليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضا لله؟ قلت: بلى. قال: أولم تجد أن القرآن يشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تحزن» ، نهيا له عن الحزن؟ قلت: أعوذ بالله! قال: يا إسحاق، إن مذهبي الرفق بك، لعل الله يردّك إلى الحق ويعدك بك عن الباطل، لكثرة ما تستعيذ به. وحدّثني عن قول الله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
«4» ، من عنى بذلك؛ رسول الله أم أبا بكر؟ قلت: بل رسول الله. قال: صدقت!
قال: حدّثني عن قول الله عز وجل: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
«1» إلى قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
«2» . أتعلم من المؤمنون الذين أراد الله في هذا الموضوع؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين؛ قال:
الناس جميعا انهزموا يوم حنين، فلم يبق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله من جراح القوم شيء، حتى أعطى الله لرسوله الظّفر؛ فالمؤمنون في هذا الموضع عليّ خاصة، ثم من حضره من بني هاشم، قال: فمن أفضل: من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعا لينزلها عليه؟ قلت: بل من أنزلت عليه السكينة.
قال: يا إسحاق، من أفضل: من كان معه في الغار، أم من نام على فراشه ووقاه بنفسه، حتى تمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر عليّا بالنوم على فراشه، وأن يقي «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه؛ فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فبكى عليّ رضي الله عنه؛ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عليّ، أجزعا من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفا عليك؛ أفتسلم يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله. ثم أتى مضجعه واضطجع، وتسجّى «4» بثوبه، وجاء المشركون من قريش فحفّوا «5» به، لا يشكّون أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف، لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه؛ وعليّ يسمع ما القوم فيه من إتلاف نفسه، ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار؛ ولم يزل عليّ صابرا محتسبا؛ فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح، فلما أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا: أين محمد؟ قال: وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا: فلا نراك إلا مغرّرا بنفسك منذ ليلتنا، فلم يزل على أفضل ما بدأ به يزيد، ولا ينقص، حتى قبضه الله إليه.
يا إسحاق، هل تروي حديث الولاية؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: اروه، ففعلت قال: يا إسحاق، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟ قلت: إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين علي، وأنكر ولاء علي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه؛ اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» . قال: في أي موضع قال هذا، أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟ قلت: أجل. قال: فإنّ قتل زيد بن حارثة قبل الغدير؛ كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني: لو رأيت ابنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول: مولاي مولى ابن عمي، أيها الناس فاعلموا ذلك؛ أكنت منكرا ذلك عليه: تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟ فقلت: اللهم نعم، قال: يا إسحاق، أفتنزّه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ويحكم! لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم «1» ؛ إن الله جل ذكره قال في كتابه: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
«2» . ولم يصلّوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم؛ يا إسحاق، أتروي حديث: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قد سمعته وسمعت من صحّحه وجحده. قال: فمن أوثق عندك: من سمعت منه فصحّحه، أو من جحده؟
قلت: من صحّحه. قال: فهل يمكن أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلم مزح بهذا القول؟ قلت:
أعوذ بالله! قال: فقال قولا لا معنى له فلا يوقف عليه؟ قلت: أعوذ بالله! قال: أفما تعلم أن هارون كان أخا موسى لأبيه وأمّه؟ قلت: بلى. قال: فعليّ أخو رسول الله لأبيه وأمّه؟ قلت: لا. قال: أو ليس هارون كان نبيّا وعليّ غير نبيّ؟ قلت: بلى.
قال: فهذان الحالان معدومان في عليّ وقد كانا في هارون؛ فما معنى قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ؟ قلت له: إنما أراد أن يطّيب بذلك نفس عليّ لمّا قال المنافقون إنه خلّفه استثقالا له. قال: فأراد أن يطيّب نفسه بقول لا معنى له؟ قال:
فأطرقت، قال: يا إسحاق، له معنى في كتاب الله بيّن. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حكاية عن موسى أنه قال لأخيه هارون: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
«1» . قلت: يا أمير المؤمنين، إن موسى خلف هارون في قومه وهو حيّ، ومضى إلى ربه، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خلّف عليّا كذلك حين خرج إلى غزاته. قال: كلا، ليس كما قلت؛ أخبرني عن موسى حين خلف هارون: هل كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟ قلت: لا. قال: أو ليس استخلفه على جماعتهم؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين خرج إلى عزاته: هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان؛ فأنّي يكون مثل ذلك؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه، لا يقدر أحد أن يحتج فيه، ولا أعلم أحدا احتج به وأرجو أن يكون توفيقا من الله.
قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله عز وجل حين حكى عن موسى قوله:
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً
«2» «فأنت مني يا عليّ بمنزلة هارون من موسى: وزيري من أهلي، وأخي، شدّ الله به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبح الله كثيرا، ونذكره كثيرا» فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئا غير هذا ولم يكن ليبطل قول النبي صلّى الله عليه وسلم وأن يكون لا معنى له؟
قال: فطال المجلس وارتفع النهار؛ فقال يحيى بن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحت الحق لمن أراد الله به الخير، وأثبت ما يقدر أحد أن يدفعه. قال إسحق: فأقبل علينا وقال: ما تقولون؟ فقلنا: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزه الله، فقال: والله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال اقبلوا القول من الناس، ما كنت لأقبل منكم القول؛ اللهم قد نصحت لهم القول، اللهم إني قد أخرجت الأمر من عنقي، اللهم إني أدينك بالتقرب إليك بحب عليّ وولايته!
المساحقي والدعوة إلى المأمون:
وكتب المأمون إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي عامله على المدينة، أن اخطب الناس وادعهم إلى بيعة الرضا عليّ بن موسى، فقام خطيبا فقال:
يا أيها الناس هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون؛ هذا عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، ستة آباءهم ما هم، من خير من يشرب صوب «1» الغمام.
المأمون والرضى:
وقال المأمون لعلي بن موسى: علام تدّعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم. فقال له المأمون: إن لم تكن إلا القرابة فقد خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم من أهل بيته من هو أقرب إليه من عليّ، أو من هو في قعدده «2» ، وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، فإن الأمر بعدها للحسن والحسين، فقد ابتزّهما عليّ حقهما وهما حيّان صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه.
فلم يجد عليّ بن موسى له جوابا.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید