المنشورات

يوم شعب جبلة : لعامر وعبس على ذبيان وتميم

قال أبو عبيدة: يوم شعب جبلة أعظم أيام العرب، وذلك أنه لما انقضت وقعة رحرحان، جمع لقيط بن زرارة لبني عامر، وألّب عليهم، وبين أيام رحرحان ويوم جبلة سنة كاملة.
وكان يوم شعب جبلة قبل الإسلام بأربعين سنة، وهو عام ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت بنو عبس يومئذ في بني عامر حلفاء لهم، فاستعدى لقيط بني ذبيان لعداوتهم لبني عبس من أجل حرب داحس، فأجابته غطفان كلها غير بني بدر، وتجمعت لهم تميم كلها غير بني سعد، وخرجت معه بنو أسد لحلف كان بينهم وبين غطفان، حتى أتى لقيط الجون الكلبي، وهو ملك هجر «1» ، وكان يحيى من بها من العرب، فقال له:
هل لك في قوم عادين قد ملأوا الأرض نعما وشاء فترسل معي ابنيك، فما أصبنا من مال وسبي فلهما، وما أصبنا من دم فلي؟ فأجابه الجون إلى ذلك، وجعل له موعدا رأس، الحول، ثم أتى لقيط النعمان بن المنذر فاستنجده وأطمعه في الغنائم، فأجابه، وكان لقيط وجيها عند الملوك، فلما كان على قرن الحول «2» من يوم رحرحان. انهلّت الجيوش إلى لقيط، وأقبل سنان بن أبي حارثة المرّي في غطفان، وهو والد هرم بن سنان الجواد، وجاءت بنو أسد، وأرسل الجون ابنيه معاوية وعمرا، وأرسل النعمان أخاه لأمه حسان بن وبرة الكلبيّ، فلما توافوا خرجوا إلى بني عامر وقد أنذروا بهم وتأهبوا لهم، فقال الأحوص بن جعفر، وهو يومئذ رحا هوازن «3» ، لقيس بن زهير: ما ترى، فإنك تزعم أنه لم يعرض لك أمران إلا وجدت في أحدهما الفرج؟ فقال قيس بن زهير: الرأي أن نرتجل بالعيال والأموال حتى ندخل شعب جبلة، فنقاتل القوم دونها من وجه واحد، فإنهم داخلون عليك الشعب «4» ، وإن لقيطا رجل فيه طيش، فسيقتحم عليك الجبل، فأرى لك أن تأمر بالإبل فلا ترعى ولا تسقى وتعقل «5» ، ثم تجعل الذراري «6» وراء ظهورنا، وتأمر الرجال فتأخذ بأذناب الإبل، فإذا دخلوا علينا الشعب حلّت الرجالة عقل الإبل ثم لزمت أذنابها، فإنها تنحدر عليهم وتحن إلى مرعاها ووردها ولا يردّ وجوهها شيء، وتخرج الفرسان في أثر الرجالة الذين خلف الإبل، فإنها تحطم ما لقيت، وتقبل عليهم الخيل وقد حطموا من عل! قال الاحوص: نعم ما رأيت! فأخذ برأيه، ومع بني عامر يومئذ بنو عبس وغني في بني كلاب، وباهلة في بني كعب، والأبناء ابناء صعصعة، وكان رهط المعقر البارقي يومئذ في بني نمير بن عامر، وكانت قبائل بجيلة كلها فيهم غير قسر.
قال أبو عبيدة: وأقبل لقيط والملوك ومن معهم، فوجدوا بني عامر قد دخلوا شعب جبلة، فنزلوا على فم الشّعب، فقال لهم رجل من بني أسد: خذوا عليهم فم الشعب حتى يعطشوا ويخرجوا، فوالله ليتساقطنّ عليكم تساقط البعر من أست البعير! فأتوا حتى دخلوا الشعب عليهم وقد عقلوا الإبل وعطشوها ثلاثة اخماس «1» ، وذلك اثنتا عشر ليلة، ولم تطعم شيئا، فلما دخلوا حلوا عقلها، فأقبلت تهوي، فسمع القوم دويّها في الشعب، فظنوا أن الشعب قد هدم عليهم، والرجالة في أثرها آخذين بأذنابها، فدقّت كل ما لقيت، وفيها بعير أعور يتلوه غلام أعسر «2» آخذ بذنبه وهو يرتجز ويقول:
أنا الغلام الاعسر ... الخير فيّ والشرّ والشرّ فيّ أكثر
فانهزموا لا يلوون على أحد، وقتل لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة أسره ذو الرّقيبة، وأسر سنان بن أبي حارثة المري أسره عروة الرحال، فجز ناصيته «3» وأطلقه فلم تشنه، وأسر عمرو بن عمرو بن عدس، أسره قيس بن المنتفق فجزّ ناصيته وخلاه طمعا في المكافأة، فلم يفعل، وقتل معاوية بن الجون، ومنقذ ابن طريف الأسدي، ومالك بن ربعي بن جندل بن نهشل، فقال جرير:
كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا ... وعمرو بن عمر إذ دعا يالدارم
ويوم الصّفا كنتم عبيدا لعامر ... وبالحزن أصبحتم عبيد اللهازم «1»
يعني بالحزن: يوم الوقيط.
وقال جرير أيضا في بني دارم:
ويوم الشّعب قد تركوا لقيطا ... كأن عليه حلة أرجوان
وكبّل حاجب بشمام حولا ... فحكّم ذا الرّقيبة وهو عان «2»
وقالت دختنوس بنت لقيط ترثي لقيطا:
قزت بنو أسد وخ ... رّ الطير عن أربابها
عن خير خندف كلّها ... من كهلها وشبابها
وأتمّها حسبا إذا ... نصّت إلى أحسابها
وقال المعقر البارقي:
أمن آل شعثاء الحمول البواكر ... مع الصّبح أم زالت قبيل الأباعر
وحلّت سليمى في هضاب وأيكة ... فليس عليها يوم ذلك قادر
وألقت عصاها واستقرت بها النّوى ... كما قرّ عينا إذا بالإياب المسافر «3»
وصبّحها أملاكها بكتيبة ... عليها إذا أمست من الله ناظر
معاوية بن الجون ذبيان حوله ... وحسّان في جمع الرّباب مكاثر
وقد زحفت دودان تبغي لثأرها ... وجاشت تميم كالفحول تخاطر
وقد جمعوا جمعا كأنّ زهاءه ... جراد هفا في هبوة متطاير «4»
فمروا بأطناب البيوت فردّهم ... رجال بأطناب البيوت مساعر «5»
فباتوا لنا ضيفا وبتنا بنعمة ... لنا مسمعات بالدفّوف وزامر
فلم نقرهم شيئا ولكن قراهم ... صبوح لدينا مطلع الشّمس حازر «1»
وصبّحهم عند الشروق كتائب ... كأركان سلمى سيرها متواتر
كأنّ نعام الدّوّ باض عليهم ... وأعينهم تحت الحبيك خوازر «2»
من الضاربين الهام يمشون مقدما ... إذا غصّ بالرّيق القليل الحناجر
أظنّ سراة القوم أن لن يقاتلوا ... إذا دعيت بالسفح عبس وعامر
ضربنا حببك البيض في غمر لجّة ... فلم ينج في الناجين منهم مفاخر
هوى زهدم تحت العجاج لعامر ... كما انقضّ باز أقتم الرّيش كاسر «3»
يفرّج عنا كلّ ثغر نخافه ... مسحّ كسرحان الفصيمة ضامر «4»
وكل طموح في العنان كأنها ... إذا اغتمست في الماء فتخاء كاسر «5»
لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر «6»
تخاف نساء يبتززن حليلها ... محرّبة قد أحردتها الضّرائر «7»
استعار هذا البيت «فألقت عصاها» من المعقر البارقي. إذ كان مثلا في الناس- راشد بن عبد ربه السّلمى، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل أبا سفيان بن حرب على نجران فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد ابن عبد ربه السلمي أميرا على المظالم والقضاء، فقال راشد بن عبد ربه:
صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه ... وردّت عليه تبتغيه تمّاضر «8»
وحلمه شيب القذال عن الصّبا ... وللشيب عن بعض الغواية زاجر «1»
فأقصر جهلي اليوم وآرتدّ باطلي ... عن اللهو لمّا آبيضّ مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعد صحوة ... بمعرض ذي الآجام عس بواكر «2»
ولما دنت من جانب الغوط أخصبت ... وحلّت فلاقاها سليم وعامر
وخبّرها الركبان أن ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر
فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر «3»
فاستعار هذا البيت الأخير من المعقر البارقي، ولا أحسبه استجاز ذلك إلا لاستعمال العامة له وتمثلهم به.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید