المنشورات

يوم اللوى : لغطفان على هوازن

قال أبو عبيدة: غزا عبد الله بن الصمة- واسم الصمة: معاوية الأصغر- من بني غزيّة بن جثم بن معاوية بن بكر بن هوازن- وكان لعبد الله ثلاثة اسماء وثلاث كنى، فاسمه: عبد الله، وخالد، ومعبد، وكنيته: أبو فرغان، وأبو دفاقة وأبو وفاء، وهو أخو دريد بن الصمة لأبيه وأمه- فأغار على غطفان، فأصاب منهم إبلا عظيمة فاطّردها، فقال له أخوه دريد: النجباء فقد ظفرت. فأبى عليه وقال: لا أبرح حتى أنتقع نقيعتي- والنقيعة: ناقة ينحرها من وسط الإبل فيصنع منها طعاما لأصحابه، ويقسم ما أصاب على أصحابه فأقام وعصى أخاه، فتبعته فزارة فقاتلوه، وهو بمكان يقال له اللوى، فقتل عبد الله، وارتثّ «1» دريد فبقي في القتلى فلما كان في بعض الليل أتاه فارسان، فقال أحدهما لصاحبه: أني أرى عينيه تبصّ «2» ، فانزل فانظر إلى سبّته «3» . فنزل فكشف ثوبه فإذا هي ترمّز «4» فطعنه، فخرج دم قد كان احتقن.
قال دريد: فأفقت عندها، فلما جاوزوني نهضت. قال: فما شعرت إلا وأنا عند عرقوب «5» جمل امرأة من هوازن، فقالت: من أنت؟ أعوذ بالله من شرك! قلت:
لا، بل من انت؟ ويلك! قالت: امرأة من هوازن سيارة. قلت: وأنا من هوازن، وأنا دريد بن الصمّة. قال: وكانت في قوم مجتازين لا يشعرون بالوقعة، فضمته وعالجته حتى أفاق.
فقال دريد يرثي عبد الله أخاه، ويذكر عصيانه له وعصيان قومه، بقوله:
أعاذل إنّ الرّزء في مثل خالد ... ولا رزء فيما أهلك المرء عن يد «6»
وقلت لعارض وأصحاب عارض ... ورهط بني السّوداء والقوم شهدي «7»
علانية ظنّوا بألفي مدجّج ... سراتهم في الفارسيّ المسرّد «8»
أمرتهم أمري بمنقطع اللّوى ... فلم يستبينوا الرشد إلّا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم أو أنّني غير مهتّد
وما أنا إلا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد «9»
فإن تعقب الأيام والدهر تعلموا ... بني غالب أنا غضاب لمعبد
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا ... فقلت أعبد الله ذلكم الرّدي
فإن يك عبد الله خلّى مكانه ... فما كان وقّافا ولا طائش اليد
ولا برما إذ ما الرياح تناوحت ... برطب العضاه والضّريع المعضّد «1»
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الضّرّاء طلّاع أنجد «2»
قليل التّشكي للمصائب حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وهوّن وجدي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي
أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: خرج دريد بن الصمة في فوارس من بني جشم حتى إذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الأخرم «3» ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة إذ رفع له رجل في ناحية الوادي معه طعينة، فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه:
صح به: خلّ عن الظعينة «4» وانج بنفسك، فانتهى إليه الفارس وصاح به وألحّ عليه فألقى زمام الناقة وقال للظعينة:
سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكن «5»
إنّ انثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي واخبري وعايني
ثم حمل عليه فصرعه وأخذ فرسه فأعطاه للظعينة، فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه، فلما انتهى إليه ورأى ما صنع، صاح به فتصامم «6» عنه كأن لم يسمع، فظن أنه لم يسمع، فغشيه، فألقى زمام الراحلة إلى الظعينة، ثم خرج وهو يقول:
خلّ سبيل الحرّة المنيعة ... إنك لاق دونها ربيعه
في كفّه خطّيّة مطيعه ... أولا فخذها طعنة سريعه «7»
والطعن مني في الوغى شريعه ثم حمل عليه فصرعه، فلما أبطآ على دريد بعث فارسا لينظر ما صنعا، فلما انتهى اليهما وجدهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه، فقال له الفارس: خلّ عن الظعينة! فقال للظعينة: اقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال:
ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس «1»
أردهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه، وانكسر رمحه.
وارتاب دريد، وظنّ أنهم قد أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل، فلحق دريد ربيعة وقد دنا من الحي، ووجد اصحابه قد قتلوا: فقال: أيها الفارس، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحك، والخيل ثائرة بأصحابها [وأراك حديث السنّ] فدونك هذا الرمح، فإني منصرف إلى أصحابي فمثبّطهم عنك.
فانصرف إلى اصحابه فقال: إن فارس الظعينة قد حماها وقتل اصحابكم وانتزع رمحي، ولا مطمع لكم فيه! فانصرف القوم، وقال دريد في ذلك:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظّعينة فارسا لم يقتل
أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمرّ كأنه لم يفعل «2»
متهلّلا تبدو أسرّة وجهه ... مثل الحسام جلته كفّ الصّيقل «3»
يزجي ظعينته ويسحب رمحه ... متوجّها يمناه نحو المنزل
وترى الفوارس من مهابة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدل «4»
يا ليت شعري من أبوه وأمّه ... يا صاح من يك مثله لا يجهل
وقال ابن مكدم:
إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عن الظّعينة يوم وادي الأخرم «1»
إذ هي لأوّل من أتاها نهزة ... لولا طعان ربيعة بن مكدّم
إذ قال لي أدنى الفوارس منهم ... خلّ الظّعينة طائعا لا تندم
فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
وهتكت بالرّمح الطويل إهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفم
ومنحت آخر بعده جيّاشة ... نجلاء فاغرة كشدق الأضجم «2»
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار عن العداة تكرّمي
ثم لم يلبث بنو كنانة [رهط ربيعة بن مكدّم] أن أغارت على بني جشم [رهطدريد] ، فقتلوا [وأسروا وغنموا] ، وأسروا دريد بن الصّمة، فأخفى نسبه، فبينما هو عندهم محبوس، إذ جاءت نسوة يتهادين «3» إليه، فصاحت إحداهن فقالت:
هلكتم وأهلكتم، ماذا جرّ علينا قومنا؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة! ثم ألقت عليه ثوبها، وقالت يا آل فراس أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي! فسألوه: من هو؟ فقال أنا دريد بن الصمة، فمن صاحبي؟ قالوا: ربيعة بن مكدم. قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته بنو سليم! قال: فا فعلت الظعينة؟ قالت المرأة: أنا هي، وأنا امرأته! فحبسه القوم وآمروا أنفسهم، فقال بعضهم: لا ينبغي لدريد أن تكفر نعمته على صاحبنا! وقال الآخرون لا والله لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذي أسره، فانبعثت المرأة في الليل- وهي ريطة بنت جزل الطعان- فقالت:
سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... وكلّ امرىء يجزى بما كان قدّما
فإن كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإن كان شرّا كان شرّا مذمّما
سنجزه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإهدائه الرّمح الطويل المقوّما «4»
فلا تكفروه حقّ نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما «1»
فإن كان حيّا لم يضق بثوابه ... ذراعا، غنيّا كان أو كان معدما
ففكّوا دريدا من إسار مخارق ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشرّ سلّما
فلما أصبحوا أطلقوه، فكسته وجهزته ولحق بقومه، فلم يزل كافّا عن حرب بني فراس حتى هلك.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید