المنشورات

مقتل كليب بن وائل

فأحمست جسّاسا، فركب فرسا له مغرورا به، فأخذ آلته، وتبعه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان على فرسه، ومعه رمحه، حتى دخلا على كليب الحمى، فقال له: يا أبا الماجدة، عمدت إلى ناقة جارتي، فعقرتها! فقال له: أتراك ما نعي أن أذبّ «1» عن حماي؟ فأحمسه الغضب، فطعنه جساس فقصم صلبه، وطعنه عمرو ابن الحارث من خلفه فقطع قطنه «2» ، فوقع كليب وهو يفحص برجله، قال لجساس:
أغثني بشربة من ماء! فقال: تجاوزت شبيثا والأحصّ «3» : ففي ذلك يقول عمرو بن الاهتم:
وإنّ كليبا كان يظلم قومه ... فأدركه مثل الذي تريان
فلما حشاه الرّمح كفّ ابن عمه ... تذكّر ظلم الأهل أيّ أوان
وقال لجسّاس أغثني بشربة ... وإلا فخبّر من رأيت مكاني
فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو غير دفان
وقال نابغة بني جعدة:
أبلغ عقالا أن خطة داحس ... بكفّيك فاستأخر لها أو تقدّم
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرّج بالدّم
رمي ضرع ناب فاستمرّ بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهّم «4»
وقال لجسّاس اغثني بشربة ... تدارك بها منّا عليّ وأنعم
فقال تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسّم «5»
فلما قتل كليب ارتحلت بنو شيبان حتى نزلوا بماء يقال له النّهيّ، وتشمر المهلهل اخو كليب- واسمه عدي بن ربيعة، وانما قيل المهلهل لانه اول من هلهل الشعر، اي ارقّه- واستعد لحرب بكر، وترك النساء والغزل، وحرّم القمار والشراب، وجمع اليه قومه، فأرسل رجلا منهم إلى بني شيبان يعذر إليهم فيما وقع من الامر، فأتوا مرة ابن ذهل بن شيبان وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناب من الإبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم، ونحن نعرض عليكم خلالا أربعا، لكم فيها مخرج، ولنا مقنع.
فقال مرة: وما هي؟ قال: تحيي لنا كليبا، او تدفع الينا جساسا قاتله فنقتله به، أو همّاما فإنه كفء له، أو تمكننا من نفسك، فإن فيك وفاء من دمه! فقال: أما إحيائي كليبا فهذا ما لا يكون، وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أيّ البلاد احتوى عليه، وأمّا همام فانه ابو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة، كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه إليّ فادفعه اليكم يقتل بجريرة غيره. واما انا فهل هو إلا ان تجول الخيل جولة غدا فأكون اوّل قتيل فيها، فما أتعجل من الموت؟ ولكن لكم عندي خصلتان: أمّا إحداهما فهؤلاء بنيّ الباقون، فعلقوا في عنق ايهم شئتم نسعة «1» فانطلقوا به إلى رحالكم فاذبحوه ذبح الجزور، وإلا فالف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلا من بني وائل! فغضب القوم وقالوا: لقد أسأت، ترذل «2» لنا ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب.
ووقعت الحرب بينهم.
ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها، ودعت تغلب النمر بن قاسط «3» فانضمت إلى بني كليب وصاروا يدا معهم على بكر، ولحقت بهم غفيلة بن قاسط، واعتزلت قبائل بكر بن وائل وكرهوا مجامعة بني شيبان ومساعدتهم على قتال إخوته، وأعظموا قتل جساس كليبا بناب من الإبل، فظعنت «4» لجيم عنهم، وكفت يشكر عن نصرتهم، وانقبض الحارث بن عباد في أهل بيته، وهو أبو بجير وفارس النعامة.
وقال المهلهل يرثي كليبا:
بتّ ليلي بالأنعمين طويلا ... أرقب النجم ساهرا أن يزولا «5»
كيف أهدأ ولا يزال قتيل ... من بني وائل ينسّي قتيلا
غيّبت دارنا تهامة في الده ... ر وفيها بنو معدّ حلولا
فتساقوا كأسا أمرّت عليهم ... بينهم يقتل العزيز الذليلا
فصبحنا بني لجيم بضرب ... يترك الهام وقعه معلولا
لم يطيقوا ان ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
انتضوا معجس القسّبي وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا «1»
قتلوا ربّهم كليبا سفاها ... ثم قالوا ما إن نخاف عويلا
كذبوا والحرام والحلّ حتى ... يسلب الخدر بيضه المحجولا «2»
ويموت الجنين في عاطف الرح ... م ونروي رماحنا والخيولا
وقال ايضا يرثيه:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذ أنت خلّيتها فيمن يخلّيها
كليب أيّ فتى عزّ ومكرمة ... تحت السقائف إذ يعلوك سافيها «3»
نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم ... مالت بنا الارض أو زالت رواسيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كلّ آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردي في أعنتها ... زهوا إذا الخيل لجّت في تعاديها
من خيل تغلب ما تلفى أسنّتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها
يهزهزون من الخطّيّ مدمجة ... كمتا أنابيبها زرقا عواليها «4»
ترى الرماح بأيدينا فنوردها ... بيضا ونصدرها حمرا أعاليها
ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقّت الارض فانجابت بمن فيها
لا أصلح الله منّا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید