المنشورات

يوم الصفقة: ويوم الكلاب الثاني

قال أبو عبيدة: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال: كان يوم الكلاب متصلا بيوم الصفقة، وكان من حديث الصفقة أن كسرى الملك كان قد أوقع ببني تميم فأخذ الاموال وسبى الذراري بمدينة هجر. وذلك أنهم أغاروا على لطيمة «3» له فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فسمّيت تلك الوقعة يوم الصفقة، ثم إن بني تميم أداروا أمرهم، فقال ذو الحجى منهم: إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وهنتم، وتسامعت بما لقيتم القبائل، فلا تأمنون دوران العرب! فجمعوا سبعة رؤساء منهم، وشاوروهم في أمرهم، وهم: أكثم بن صيفي الأسيدي، والأعيمر بن يزيد بن مرة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان بن الحسحاس التيمي، وأبير بن عمرو والسعدي، والزبرقان ابن بدر السعدي، فقالوا لهم: ماذا ترون؟ فقال اكثم بن صيفي، وكان يكني أبا حنش: إن الناس قد بلغهم ما قد لقينا، نحن نخاف أن يطمعوا فينا. ثم مسح بيده على قلبه وقال: إني قد نيّفت على التسعين، وانما قلبي بضعة من جسمي، وقد نحل كل جسمي، وإني أخاف ان لا يدرك ذهني الرأي لكم، وأنتم قوم قد شاع في الناس أمركم، وإنما كان قوامكم أسيفا وعسيفا- يريد العبد والاجير- وصرتم اليوم إنما ترعى لكم بناتكم، فليعرض عليّ كلّ رجل منكم رأيه وما يحضره، فاني متى أسمع الحزم أعرفه. فقال كل رجل منهم ما رأى، وأكثم ساكت لا يتكلم، حتى قام النعمان ابن الحسحاس، فقال: يا قوم، انظروا ماء يجمعكم ولا يعلم الناس بأي ماء أنتم، حتى تنفرج الحلقة عنكم وقد جممتم «1» وصلحت أحوالكم وانجبر كسيركم وقوي ضعيفكم، ولا أعلم ماء يجمعكم إلا قدّة «2» ، فارتحلوا وانزلوا قدّة. وهو موضع يقال له الكلاب، فلما سمع أكثم بن صيفي كلام النعمان، قال: هذا هو الرأي! فارتحلوا حتى نزلوا الكلاب، وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلي اليمن، وأسفله مما يلي العراق، فنزلت سعد الرّباب بأعلى الوادي، ونزلت حنظلة بأسفله.
قال أبو عبيدة: وكانوا لا يخافون أن يغزوا في القيظ، ولا يسافر فيه أحد، ولا يستطيع أحد ان يقطع تلك الصحارى، لبعد مسافتها، وليس بها ماء! ولشدة حرها.
فأقاموا بقية القيظ لا يعلم أحد بمكانهم! حتى إذا تهور القيظ- أي ذهب- بعث الله ذا العينين، وهو من أهل مدينة هجر، فمر بقدة وصحرائها، فرأى ما بها من النعم، فانطلق حتى أتى أهل هجر. فقال لهم: هل لكم في جارية عذراء، ومهرة شوهاء «3» ، وبكرة «4» حمراء، ليس دونها نكبة؟ فقالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: تلكم تميم ألقاء مطروحون بقدّة. قالوا: إي والله! فمشي بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموها من بني تميم! فأخرجوا منهم أربعة أملاك، يقال لهم اليزيديون: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأمور، ويزيد بن المخرم، وكلهم حارثيون، ومعهم عبد يغوث الحارثي، فكان كل واحد منهم على ألفين، والجماعة ثمانية الاف، فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبر منه، ومن جيش يوم كسرى يوم ذي قار، ويوم شعب جبلة- فمضوا، حتى إذا كانوا ببلاد باهلة، قال جزء بن جزء بن جزء الباهلي لابنه: يا بني، هل لك في أكرومة لا يصاب أبدا مثلها؟ قال: وما ذاك؟ قال: هذا الحيّ من تميم قد ولجوا هناك مخافة، وقد قصصت أثر الجيش يريدونهم، فاركب جملي الأرحبيّ «1» ، وسر سيرا رويدا عقبة من الليل- يعني ساعة- ثمل حلّ عنه حبليه وأنخه وتوسّد ذراعه، فإذا سمعته قد أفاض بجرّته وبال فاستنقعت ثفتاته «2» في بوله، فشدّ عليه حبله، ثم ضع السّوط عليه، فإنك لا تسأل جملك شيئا من السير الا اعطاك، حتى تصبّح القوم. ففعل ما أمره به.
قال الباهلي: فحللت بالكلاب قبل الجيش وأنا أنظر إلى ابن ذكاء- يعني الصبح- فناديت: يا صباحاه! فانهم ليثبون إليّ ليسألوني من انت، إذ أقبل رجل منهم من بني شقيق على مهر قد كان في النعم، فنادى: يا صباحاه! قد أتي على النعم! ثم كر راجعا نحو الجيش، فلقيه عبد يغوث الحارثي وهو أول الرعيل، فطعنه في رأس معدته فسبق اللبن الدم، وكان قد اصطبح «3» ، فقال عبد يغوث: اطيعوني وامضوا بالنعم وخلوا العجائز من تميم ساقطة افواهها: قالوا: اما دون ان تنكح بناتهم فلا! وقال ضمرة بن لبيد الحماسي، ثم المذحجي الكاهن: انظروا إذا سقتم النعم «4» ، فإن أتتكم الخيل عصبا [عصبا] ، العصبة تنتظر الاخرى حتى تلحق بها، فإن أمر القوم هيّن، وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضا حتى يردّوا وجوه النعم، فإنّ أمرهم شديد. 
وتقدمت سعد والرباب في أوائل الخيل، فالتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النّعم ولم ينتظر بعضهم بعضا. ورئيس الرباب النعمان بن الحسحاس، ورئيس بني سعد قيس بن عاثم، وأجمع العلماء أن قيس بن عاصم كان رئيس بني تميم.
فالتقى القوم، فكان أول صريع النعمان بن الحسحاس، واقتتل القوم بقية يومهم، وثبت بعضهم لبعض حتى حجز الليل بينهم، ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيس بن عاصم: يا آل سعد! ونادى عبد يغوث: يا آل سعد! قيس يدعو سعد بن زيد مناة، وعبد يغوث يدعو سعد العشيرة، فلما سمع ذلك قيس نادى: يا آل كعب! فنادى عبد يغوث: يا آل كعب! قيس يدعو كعب بن سعد، وعبد يغوث يدعو كعب بن مالك، فلما رأى ذلك قيس نادى: يا آل كعب مقاعس فلما سمعه وعلة بن عبد الله الجرمي- وكان صاحب لواء اهل اليمن- نادى: يا لمقاعس! تفاءل به فطرح له اللواء، وكان أول من انهزم، فحملت عليهم بنو سعد الرباب فهزموهم، ونادى قيس بن عاصم: يا آل تميم، لا تقتلوا إلا فارسا فإن الرجّالة لكم! ثم جعل يرتجز ويقول:
لما تولّوا عصبا هواربا ... أقسمت لا أطعن إلا راكبا «1»
إن وجدت الطعن فيهم صائبا
وقال أبو عبيدة: أمر قيس بن عاصم أن يتبعوا المنهزمة ويقطعوا عرقوب من لحقوا ولا يشتغلوا بقتلهم عن اتّباعهم فجزّوا دوابرهم، فذلك قول وعلة:
فدى لكم أهلي وأمي ووالدي ... غداة كلاب إذ تجزّ الدّوابر «2»
وسنكتب هذه القصيدة على وجهها. وحمى عبد يغوث اصحابه فلم يوصل إلى الجانب الذي هو فيه، فألظّ «3» به مصاد بن ربيعة بن الحارث، فلما لحقه مصاد طعنه فألقاه عن الفرس فأسره، وكان مصاد قد أصابته طعنة في مأبضه «4» ، وكان عرقه يهمي- أي يسيل- فعصبه، وكتفه- يعني عبد يغوث- ثم أردفه خلفه، فنزفه الدم، فمال عن فرسه مقلوبا. فلما رأى ذلك عبد يغوث قطع كتافه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أول النهار، ثم ظفر به بعد في آخره. ونادى مناد قتل اليزيدون.
وشد قبيضة بن ضرار الضبي على ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن فطعنه فخرّ صريعا، فقال له قبيصة: ألا أخبرك تابعك بمصرعك اليوم! وأسر عبد يغوث، وأسره عصمة بن أبير التيمي.
قال أبو عبيدة: انتهى عصمة بن أبير إلى مصاد وقد أمعنوا في الطلب، فوجده صريعا، وقد كان قبل ذلك رأى عبد يغوث أسيرا في يديه، فعرف أنه هو الذي اجهز عليه، فاقتص أثره، فلما لحقه قال له: ويحك! إني رجل أحب اللين، وأنا خير لك من الفلاة والعطش! قال عبد يغوث: ومن أنت؟ قال: عصمة بن أبير. قال عبيد يغوث: أو عندك منعة؟ قال: نعم، فألقى يده في يده، فانطلق به عصمة حتى خبأه عند الاهتم، على ان جعل له من فداه جعلا «1» فوضعه الاهتم عند امرأته العبشمية «2» ، فأعجبها جماله وكمال خلقه، وكان عصمة الذي أسره غلاما نحيفا، فقالت لعبد يغوث: من أنت؟ قال: انا سيّد القوم! فضحكت، وقالت: قبحك الله سيد قوم حين أسرك مثل هذا. ولذلك يقول عبد يغوث:
وتضحك مني شيخة عبشميّة ... كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا
فاجتمعت الرباب الى الاهتم فقالت: ثأرنا عندك، وقد قتل مصاد والنعمان، فأخرجه إلينا! فأبى الاهتم ان يخرجه اليهم، فكاد ان يكون بين الحيين: الرباب وسعد، فتنة، حتى أقبل قيس بن عاصم المنقري، فقال: أيؤتى قطع حلف الربّاب من قبلنا؟ وضرب فمه بقوس فهتمه «3» فسمّي الأهتم، فقال الاهتم: انما دفعه إليّ عصمة ابن أبير، ولا أدفعه إلا لمن دفعه إليّ، فليجىء فيأخذه. فأتوا عصمة فقالوا: يا عصمة، قتل سيدنا النعمان، وفرسنا، مصاد، وثأرنا أسيرك وفي يدك، فما ينبغي لك أن تستحبيه! فقال: إني ممحل «1» ، وقد أصبت الغنى في نفسي، ولا تطيب نفسي عن أسيري! فاشتراه بنو الحسحاس بمائة بعير. وقال رؤبة بن العجاج: بل أرضوه بثلاثين من حواشي النّعم، فدفعه إليهم، فخشوا ان يهجوهم، فشدوا على لسانه نسعة «2» ، فقال إنكم قاتليّ ولا بدّ، فدعوني أذمّ أصحابي وأنوح على نفسي! فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا! فعقد لهم أن لا يفعل، فأطلقوا لسانه وأمهلوه حتى قال قصيدته التي أولها:
ألالا تلوماني كفى اللّوم ما بيا ... فما لكما في الّوم خير ولا ليا
ألم تعلما أنّ الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا «3»
فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا «4»
أبا كرب والأيهمين كليهما ... وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا «5»
جزى الله قومي بالكلاب ملامة ... صريحهم والآخرين المواليا «6»
ولو شئت نجّتني من القوم نهدة ... ترى خلفها الجرد الجياد تواليا «7»
ولكنني أحمى ذمار أبيكم ... وكاد الرّماح يختطفن المحاميا «8»
أحقّا عباد الله أن لست سامعا ... نشيد الرّعاء المعزبين المثاليا «9»
أقول وقد شدّوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا
وتضحك مني شيخة عبشميّة ... كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا «1»
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا ... فإنّ أخاكم لم يكن من بوائيا «2»
وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا اللّيث معدوّا عليه وعاديا
وقد كنت نحّار الجزور ومعمل الم ... طيّ وأمضي حيث لا حيّ ماضيا
وأعقر للشّرب الكرام مطيّتي ... وأصدع بين القينتين ردائيا «3»
وكنت إذا ما الخيل شمّطها القنا ... لبيقا بتصريف القناة بنانيا «4»
وعادية سوم الجراد وزعتها ... برمحي وقد أنحوا إليّ العواليا «5»
كأنّي لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كرّي قاتلي عن رجاليا
ولم أسبإ الزّقّ الّرويّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا «6»
قال ابو عبيدة: فلما ضربت عنقه قالت ابنة مصاد: بؤ بمصاد! فقال بنو النعمان:
يالكاع! نحن نشتريه بأموالنا ويبوء بمصاد؟ فوقع بينهم في ذلك الشر، ثم اصطلحوا، وكان الغناء كله يوم الكلاب من الرباب لتيم، ومن بني سعد لمقاعس.
وقال وعلة الجرمي وكان أول منهزم انهزم يوم الكلاب، وكان بيده لواء القوم:
ومنّ عليّ الله منّا شكرته ... غداة الكلاب إذ تجز الدّوابر
ولمّا رأيت الخيل تترى أثابجا ... علمت بأنّ اليوم أحمس فاجر «7»
نجوت نجاء ليس فيه وثيرة ... كأني عقاب عند تيمن كاسر «8»
خداريّة سفعاء لبّذ ريشها ... بطخفة يوم ذو أهاضيب ماطر «9»
لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر
كأنّا وقد حالت حذتّه دوننا ... نعام تلاه فارس متواتر «1»
فمن يك يرجو في تميم هوادة ... فليس لجرم في تميم أواصر
ولمّا سمعت الخيل تدعو مقاعسا ... تنازعني من ثغرة النحر ناحر
فإن أستطيع لا تلتبس بي مقاعس ... ولا ترني بيداؤهم والمحاضر «2»
ولا أك في جرّارة مضريّة ... إذا ما غدت قوت العيال تبادر «3»
وقد قلت للنّهديّ هل أنت مردفي ... وكيف رداف الفلّ أمّك عاثر «4»
يذكّرني بالإلّ بيني وبينه ... وقد كان في جرم ونهد تدابر «5»
وقال محرز بن المعكبر الضبي- ولم يشهدها وكان مجاورا في بكر بن وائل- لما بلغه الخبر:
فدى لقومي ما جمّعت من نشب ... إذ ساقت الحرب أقواما لأقوام «6»
إذ حدّثت مذحج عنا وقد كذبت ... أن لا يذبّب عن أحسابنا حام
دارت رحانا قليلا ثم واجههم ... ضرب تصدّع منه جلدة الهام «7»
ظلّت ضباع مجيرات تجرّرهم ... وألحموهنّ منهم أيّ إلحام «8»
حتى حذنّة لم نترك بها ضبعا ... إلّا لها جزر من شلو مقدام «9»
ظلّت تدوس بني كعب بكلكلها ... وهمّ يوم بني نهد بإظلام «1»
قال أبو عبيدة: حدثني المنتجع بن نبهان قال: وقف رؤبة بن العجاج على التيم بمسجد الحرورية، فقال: يا معشر تيم، إني سمرت عند الامير تلك الليلة، فتذاكرنا يوم الكلاب، فقال: يا معشر تيم، إن الكلاب ليس كما ذكرتم فأعفونا من قصيدتي صاحبينا- يعني عبد يغوث ووعلة الجرمي- ومن قصيد ابن المعكبر صاحبكم، وهاتوا غير ذلك، فأنتم اكثر الناس كلاما وهجاء.
قال رؤبة: فأنشدناه في ذلك اليوم شعرا كثيرا، فجعل يقول: هذه إسلامية كلها.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید