المنشورات

يوم ذي قار

قال أبو عبيدة: يوم ذي قار هو يوم ذي الحنو، ويوم قراقر، ويوم الجبايات، ويوم ذات العجرم، ويوم بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار، وقد ذكرتهن الشعراء.
قال أبو عبيدة: لم يكن هانيء بن مسعود المستودع حلقة النعمان، وإنما هو ابن ابنه، واسمه هانيء بن قبيصة بن هانيء بن مسعود، لأن وقعة ذي قار كانت وقد بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخبّر أصحابه بها فقال: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا.
فكتب كسرى إلى إياس بن قبيصة يأمره أن يضم ما كان للنعمان، فأبى هانيء بن قبيصة أن يسلم ذلك إليه، فغضب كسرى وأراد استئصال بكر بن وائل.
وقدم عليه النعمان بن زرعة التغلبي وقد طمع في هلاك بكر بن وائل، فقال: يا خير الملوك، ألا أدلك على غرة «1» بكر؟ قال: بلى. قال: أقرها وأظهر الإضراب عنها حتى يجليها القيظ ويدنيها منك، فإنهم لو قاظوا «2» تساقطوا عليك بمالهم واديا يقال له ذو قار تساقط الفراش في النار، فأقرهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل حتى نزلوا الحنو حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيّرهم بين ثلاث خصال: إمّا أن يسلموا الحلقة، وإمّا أن يعروا الديار، وإما أن يأذنوا بحرب! فتنازعت بكر بينها، فهمّ هانيء بن قبيصة بركوب الفلاة، وأشار به على بكر، وقال: لا طاقة لكم بمجموع الملك! فلم تر من هانيء سقطة قبلها.
وقال حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي: لا أرى غير القتال، فإنّا إن ركبنا الفلاة متنا عطشا، وإن أعطينا بأدينا تقتل مقاتلتنا وتسبى ذرارينا «3» . فراسلت بكر بينها وتوافت بذي قار، ولم يشهدها أحد من بني حنيفة، ورؤساء بني بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانيء بن قبيصة، ويزيد بن مسهر الشيباني، وحنظلة بن ثعلبة العجلي.
وقال مسمع بن عبد الملك العجلي بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل: لا والله ما كان لهم رئيس، وإنما غزوا في ديارهم فثار الناس إليهم من بيوتهم.
وقال حنظلة بن ثعلبة لهانيء بن قبيصة: يا أبا أمامة، إنّ ذمّتكم ذمّتنا عامّة، وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرّقها في قومك، فإن تظفر فستردّ عليك، وإن تهلك فأهون مفقود. فأمر بها فأخرجت وفرّقت بينهم.
وقال للنعمان: لولا أنك رسول ما أبت «1» إلى قومك سالما! قال أبو المنذر: فعقد كسرى للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد الخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإباس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر، وعقد للهامرز التستري- وكان على مسلحة كسري بالسواد- على ألف من الأساورة، وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدّين- وكان عامله على الطّفّ «2» طفّ سفوان- وأمره أن يوافي إياس بن قبيصة، ففعل.
وسار إياس بمن معه من جنده من طيء، ومعه الهامرز، والنعمان بن زرعة وخالد ابن يزيد، وقيس بن مسعود، كل واحد منهم على قومه، فلما دنا من بكر انسلّ قيس إلى قومه ليلا، فأتى هانئا فأشار عليهم كيف يصنعون، وأمرهم بالصبر ثم رجع.
فلما التقى الزحفان وتقارب القوم، قام حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، فقال: يا معشر بكر، إنّ النّشّاب «3» الذي مع هؤلاء الأعاجم تفرّقكم، فعاجلوهم اللقاء وابدءوهم بالشدّة.
وقال هانيء بن مسعود: يا قوم مهلك مقدور، خير من منجى مغرور، إنّ الجزع لا يردّ القدر، وإنّ الصبر من أسباب الظفر. المنيّة خير من الدّنية، واستقبال الموت خير من استدباره، فالجدّ الجدّ، فما من الموت بدّ.
ثم قام حنظلة بن ثعلبة فقطع وضن «1» النساء فسقطن إلى الأرض، وقال: ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته «2» . فسمي مقطع الوضن.
قال: وقطع يومئذ سبعمائة رجل من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضرب السيوف، وعلى ميمنتهم بكر يزيد بن مسهر الشيباني، وعلى ميسرتهم حنظلة بن ثعلبة العجلي وهانيء بن قبيصة، ويقال ابن مسعود في القلب، فتجالد القوم، وقتل يزيد بن حارثة اليشكري الهامرز مبارزة، ثم قتل يزيد بعد ذلك، ويقال إنّ الحوافزان بن شريك شدّ على الهامرز فقتله، وقال بعضهم: لم يدرك الحوفزان يوم ذي قار، وإنما قتله يزيد بن حارثة.
وضرب الله وجوه الفرس فانهزموا، فاتّبعهم بكر حتى دخلوا السواد في طلبهم يقتلونهم، وأسر النعمان بن زرعة التغلبي.
ونجا إياس بن قبيصة على فرسه الحمامة، فكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة وكان كسرى لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه، فلما أتاه ابن قبيصة، سأله عن الجيش، فقال: هزمنا بكر بن وائل وأتيناك ببناتهم! فعجب بذلك كسرى وأمر له بكسوة، ثم استأذنه إياس فقال: أخي قيس بن قبيصة مريض بعين التمر، فأردت أن آتيه. فأذن له.
ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق، فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا: إياس. فظنّ أنه حدّثه الخبر، فدخل عليه وأخبره بهزيمة القوم وقتلهم، فأمر به فنزعت كتفاه.
قال أبو عبيدة: لما كان يوم ذي قار، كان في بكر أسرى من تميم قريبا من مائتي أسير، أكثرهم من بني رياح بن يربوع، فقالوا: خلّوا عنا نقاتل معكم، فإنما نذب «1» عن أنفسنا! فقالوا: إنا نخاف أن لا تناصحونا! قالوا: فدعونا نعلم حتى تروا مكاننا وغناءنا.
وفي ذلك قوم جرير:
منّا فوارس ذي بهدى وذي نجب ... والمعلمون صباحا يوم ذي قار «2»
قال أبو عبيدة: سئل عمرو بن العلاء- وتنافر إليه عجلي ويشكري، فزعم العجلي أنه لم يشهد يوم ذي قار غير شيباني وعجلي، وقال اليشكري: بل شهدتها قبائل بكر وحلفاؤهم.
فقال عمرو: قد فصل بينكما التغلبي حيث يقول:
ولقد رأيت أخاك عمرا أمرة ... يقضي وضيعيه بذات العجرم «3»
في غمرة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم
وكأنما أقدامهم وأكفهم ... سرب تساقط في خليج مفعم
لمّا سمعت دعاء مرّة قد علا ... وأتى ربيعة في العجاج الأقتم «4»
ومحلّم يمشون تحت لوائهم ... والموت تحت لواء آل محلّم
لا يصدفون عن الوغى بوجوههم ... في كلّ سابغة كلون العظلم «5»
ودعت بنو أمّ الرّقاع فأقبلوا ... عند اللّقاء بكلّ شاك معلم
وسمعت يشكر تدّعي بخبيّب ... تحت العجاجة وهي تقطر بالدم «6»
يمشون في حلق الحديد كما مشت ... أسد العرين بيوم نحس مظلم «1»
والجمع من ذهل كأن زهاءهم ... جرب الجمال يقودها ابنا قشعم
والخيل من تحت العجاج عوابسا ... وعلى سنابكها مناسج من دم «2»
وقال العديل بن الفرخ العجلي:
ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يعدّون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... لمّا استلبنا لكسرى كلّ إسوار «3»
قال: وقالت عجل: لنا يوم ذي قار. فقيل لهم: من المستودع، ومن المطلوب، ومن نائب الملك، ومن الرئيس؟ فهو إذا لهم، كانت الرياسة لهانيء وكان حنظلة يشير بالرأي.
وقال شاعرهم:
إن كنت ساقية يوما ذوي كرم ... فاسقي الفوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم ... واعلي مفارقهم مسكا وريحانا
وقال أعشى بكر:
أمّا تميم فقد ذاقت عداوتنا ... وقيس عيلان مسّ الخزي والأسف
وجند كسرى غداة الحنو صبّحهم ... مناغطاريف تزجي الموت وانصرفوا «4»
لقوا ململمة شهباء يقدمها ... للموت لا عاجز فيها ولا خرف «5»
فرع نمته فروع غير ناقصة ... موفّق حازم في أمره أنف
فيها فوارس محمود لقاؤهم ... مثل الأسنّة لا ميل ولا كشف
بيض الوجوه غداة الروع تحسبهم ... جنان عبس عليها البيض والزّغف «1»
لمّا التقينا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكر فينصرفوا
قالوا البقيّة والهنديّ يحصدهم ... ولا بقية إلا السيف فانكشفوا
لو أنّ كلّ معدّ كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
لما أمالوا إلى النشّاب أيديهم ... ملنا ببيض فظلّ الهام يختطف «2»
إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت ... حتى تولت وكاد اليوم ينتصف
بطارق وبنو ملك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها النّطف «3»
من كلّ مرجانة في البحر أحرزها ... تيّارها ووقاها طينها الصدف
كأنما الآل في حافات جمعهم ... والبيض برق بدا في عارض يكف «4»
ما في الخدود صدود عن سيوفهم ... ولا عن الطّعن في اللبّات منحرف
وقال الأعشى يلوم قيس بن مسعود:
أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ ترجو شبابك وائل
أطورين في عام غزاة ورحلة ... ألا ليت قيسا غرقته القوابل «5»
لقد كان في شيبان لو كنت عالما ... قباب وحيّ حلة وقنابل
ورجراجة تعشي النواظر فحمة ... وجرد على أكتافهنّ الرّواحل «6»
رحلت ولم تنظر وأنت عميدهم ... فلا يبلغنّي عنك ما أنت فاعل
فعرّيت من أهل ومال جمعته ... كما عريت مما تمرّ المغازل
شفى النفس قتلى لم توسّد خدودها ... وسادا ولم تعضض عليها الأنامل
بعينيك يوم الحنو إذ صبّحتهم ... كتائب موت، لم تعقها العواذل
ولما بلغ كسرى خبر قيس بن مسعود إذ انسل إلى قومه، حبسه حتى مات في حبسه، وفيه يقول الأعشى:
وعرّيت من أهل ومال جمعته ... كما عريت مما تمرّ المغازل
وكتب لقيط الإيادي إلى بني شيبان في يوم ذي قار شعرا يقول في بعضه:
قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا
وقلّدوا أمركم لله درّكم ... رحب الذّراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متّبعا طورا ومتبعا
حتى استمرّ على شزر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا «1»
وهذه الأبيات نظير قول عبد العزيز بن زرارة:
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق ... شتّى فصادفت منه اللين والفظعا
كلّا بلوت فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشّعت من لأوائه جزعا «2»
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید