المنشورات

فضائل الشعر

ومن الدليل على عظم قدر الشعر عند العرب وجليل خطبه في قلوبهم: أنه لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المعجز نظمه، المحكم تأليفه، وأعجب قريشا ما سمعوا منه، قالوا: ما هذا إلا سحر! وقالوا في النبي صلّى الله عليه وسلّم: شاعر نتربّص به ريب المنون «1» . وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرو بن الأهتم لما أعجبه كلامه: إنّ من البيان لسحرا.
وقال الراجز:
لقد خشيت أن تكون ساحرا ... راوية مزا ومرا شاعرا «2»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من الشّعر لحكمة.
وقال كعب الأحبار: إنا نجد قوما في التوراة أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة، وأظنهم الشعراء.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدّمها في حاجاته، يستعطف بها قلب الكريم، ويستميل بها قلب اللئيم.
وقال الحجاج للمساور بن هند: مالك تقول الشعر وقد بلغت من العمر ما بلغت؟
قال: أرعى به الكلأ، وأشرب به الماء، وتقضى لي به الحاجة، فإن كفيتني ذلك تركته!
وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: روّهم الشعر، روّهم الشعر: يمجدوا وينجدوا! وقالت عائشة: روّوا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.
وبعث زياد بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون من العلم فوجده عالما بكل ما سأله عنه، ثم استنشده الشعر، فقال: لم أرو منه شيئا! فكتب معاوية إلى زياد؟ ما منعك أن تروّيه الشعر؟ فوالله إن كان العاق «1» ليرويه فيبرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل.
وكان علي رضي الله عنه إذا أراد المبارزة في الحرب أنشأ يقول:
أيّ يوميّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر
وقال المقداد بن الأسود: ما كنت أعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم بشعر ولا فريضة من عائشة رضي الله عنها! وفي رواية الخشني عن أبي عاصم عن عبد الله بن لا حق عن ابن أبي مليكة قال:
قالت عائشة: رحم الله لبيدا كان يقول:
قضّ الّلبانة لا أبا لك واذهب ... والحق بأسرتك الكرام الغيّب «2»
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب «3»
فكيف لو أدرك زماننا هذا! ثم قالت: إني لأروي ألف بيت له، وإنه أقل ما أروي لغيره.
وقال الشعبي: ما أنا لشيء من العلم أقلّ مني رواية للشعر، ولو شئت أن أنشد شعرا شهرا لا أعيد بيتا لفعلت.
وسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة وهي تنشد شعر زهير بن جناب.
ارفع ضعيفك لا يحل بك ضعفه ... يوما فتدركه عواقب ما جني
يجزيك أو يثني عليك فإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: صدق يا عائشة، لا شكر الله من لا يشكر الناس.
يزيد بن عمر بن مسلم الخزاعي، عن أبيه عن جده قال: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ومنشد ينشده قول سويد بن عامر المصطلقي:
لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم ... إنّ المنايا بجنبي كلّ إنسان
فاسلك طريقك تمشي غير مختشع ... حتى تلاقي الذي منيّ لك الماني
فكلّ ذي صاحب يوما مفارقه ... وكلّ زاد وإن أبقيته فان
والخير والشّرّ مقرونان في قرن ... بكلّ ذلك يأتيك الجديدان «1»
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو أدرك هذا الإسلام لأسلم.
أبو حاتم عن الاصمعي قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنشدك يا رسول الله، قال: نعم، فأنشده:
تركت القيان وعزف القيان ... وأدمنت تصلية وابتهلا
وكرّ المشقر في حومة ... وشنى على المشركين القتالا «2»
أيا ربّ لا أغبننّ صفقتي ... فقد بعت مالي وأهلي بدالا
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ربح البيع. ربح الببيع.
وقدم أبو ليلى النابغة الجعدي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله بك! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى الجنة إن شاء الله! فلما بلغ قوله وانتهى وهو يقول:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا «1»
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يفضض «2» الله فاك. فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنغضن «3» له ثنية «4» .
سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: إنها لكلمة نبيّ يعني قول الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك وبالاخبار من لم تزوّد
وسمع كعب قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
قال: إنه في التوراة حرف بحرف، يقول الله تعالى: من يفعل الخير يجده عندي، لا يذهب الخير بيني وبين عبدي.
للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ابن عباس قال: أنشدت النبي صلّى الله عليه وسلّم أبياتا لامية بن أبي الصلت يذكر فيها حملة العرش، وهي:
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والتّيس للأخرى وليث مرصد «5»
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... فجرا ويصبح لونها يتوقّد
تبدو فما تبدو لهم في وقتها ... إلا معذّبة وإلا تجلد
فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم كالمصدّق له.
ومن حديث ابن ابي شيبة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أردف الشريد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: تروي من شعر امية بن ابي الصلت شيئا قلت: نعم. قال: فأنشدني. فأنشدته، فجعل يقول بين كل قافيتين: هيه! حتى أنشدته مائة قافية، فقال: هذا رجل آمن لسانه وكفر قلبه! ولو لم يكن من فضائل الشعر إلا أنه أعظم جند يجنّده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المشركين ... يدلّ على ذلك قوله لحسان: شن الغطاريف «1» على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام، وتحفّظ بيتي فيهم. قال:
والذي بعثك بالحق نبيا، لأسلّنّك منهم سلّ الشعرة من العجين! ثم أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه، وقال: والله يا رسول الله إنه ليخيّل لي أني لو وضعته على حجر لفلقه «2» ، أو على شعر لحلقه! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أيّد الله حسانا في هجوه بروح القدس.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید