المنشورات

الحجاج وأبو هريرة

وقال الحجاج: دخلت المدينة فقصدت إلى مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم: فإذا بأبي هريرة قد أكبّ الناس عليه يسألونه، فقلت: هكذا! افرجوا لي عن وجهه. فأفرج لي عنه، فقلت له: إني إنما أقول هذا:
طاف الخيالان فهاجا سقما ... خيال أروى وخيال تكتّما
تريك وجها ضاحكا ومعصما ... وساعدا عبلا وكفّا أدرما «2»
فما تقول فيه؟ قال: لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينشد مثل هذا في المسجد فلا ينكره.
ودخل كعب بن زهير على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل صلاة الصبح، فمثل بين يديه وأنشده:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول «3»
هيفاء مقبلة عجراء مدبرة ... لا يشتكى قصر منها ولا طول «1»
ما إن تدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أبثوابها الغول
ولا تمسّك بالوعد الذي وعدت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الاباطيل
فلا يغرّنك ما منت وما وعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تضليل
ثم خرج من هذا إلى مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكساه بردا اشتراه منه معاوية بعشرين ألفا.
ومن قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في الغزل:
كتمت الهوى حتى أضرّ بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم
ونمّ عليك الكاشحون وقبل ذا ... عليك الهوى قد نمّ لو نفع النّمّ «2»
فيامن لنفس لا تموت فينقضي ... عناها، ولا تحيا حياة لها طعم
تجنّبت إتيان الحبيب تأثّما ... ألا إنّ هجران الحبيب هو الإثم
ومن شعر عروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعبادها، وكان من أرق الناس تشبيبا:
قالت وأبثثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر «3»
أأنت تبصر من حولي؟ فقلت لها ... غطّى هواك وما ألقي على بصري
وقد وقفت عليه امرأة، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت القائل:
إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي ... غدوت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتّقد!
والله ما قال هذا رجل صالح. وكذبت عدوة الله عليها لعنة الله، بل لم يكن مرائيا ولكنه كان مصدورا «1» فنفث! وقدم عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك في رجال من أهل المدينة، فلما دخلوا عليه ذكروا حوائجهم فقضاها ثم التفت إلى عروة، فقال له: ألست القائل:
لقد علمت وخير القول أصدقه ... بأنّ رزقي وإن لم آت يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني «2»
قال: فما أراك إلا قد سعيت له! قال: سأنظر في أمري يا أمير المؤمنين. وخرج عنه فجعل وجهته إلى المدينة، فبعث إليه بألف دينار، وكشف عنه فقيل له: قد توجه إلى المدينة! فبعث إليه بالألف دينار، فلما قدم عليه بها الرسول، قال له: أبلغ امير المؤمنين السلام، وقل له أنا كما قلت: قد سعيت وعييت في طلبه، وقعدت عنه فأتاني لا يعنّيني.
ومن قول عبد الله بن المبارك، وكان فقيها ناسكا شاعرا رقيق النسيب معجب التّشبيب حيث يقول:
زعموها سألت جارتها ... وتعرّت ذات يوم تبترد «3»
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركنّ الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كلّ عين من يودّ
حسدا حمّلنه من شأنها ... وقديما في الحبّ الحسد
وقال شريح القاضي. وكان من جلّة التابعين، والعلماء المتقدمين، استقضاه على رحمه الله ومعاوية. وكان يزوج امرأة من بني تميم تسمى زينب، فنقم عليها فضربها، ثم ندم، فقال
رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلّت يميني يوم أضرب زينبا
أأضربها في غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس أذنبا
فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا برزت لم تبد منهنّ كوكبا «1»












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید