المنشورات

حصين وصديق له

حدثنا يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا محمد بن عبد الحكم بمصر: كان رجل له صديق يقال له حصين، فولى موضعا يقال له السابين، فطلب إليه حاجة فاعتل فيها، فكتب إليه:
اذهب إليك فإنّ ودّك طالق ... مني وليس طلاق ذات البين
فإذا ارعويت فإنها تطليقة ... ويقيم ودّك لي على ثنتين «3»
وإذا أبيت شفعتها بمثالها ... فيكون تطليقين في حيضين «4»
وإن الثلاث أتتك مني بتّة ... لم تغن عنك ولاية السّابين
ولم ارض أن أهجو حصينا وحده ... حتى أسوّد وجه كلّ حصين
طلب دعبل بن علي حاجة إلى بعض الملوك فصرح بمنعه، فكتب إليه:
أحسبت أرض الله ضيّقة ... عني؟ فأرض الله لم تضق
وحسبتني فقعا بقرقرة ... فوطئتني وطئا على حنق «1»
فإذا سألتك حاجة أبدا ... فاضرب بها قفلا على غلق
وأعدّ لي غلّا وجامعة ... فاجمع يديّ بها إلى عنقي «2»
ثم ارم بي في قعر مظلمة ... إن عدت بعد اليوم في الحمق «3»
ما أطول الدنيا وأوسعها ... وأدلّني بمسالك الطّرق
ومثل هذا قول أبي زبيد:
إن كان رزقي إليك فارم به ... في ناظري حبة على رصد «4»
ليتك أدّبتني بواحدة ... تجعلها منك آخر الأبد
تحلف أن لا تبرّني أبدا ... فإنّ فيها بردا على كبدي
وقال زياد: ما هجيت ببيت قط أشدّ عليّ من قول الشاعر:
فكّرّ ففي ذاك إن فكرت معتبر ... هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سميّة ما عاشت وما علمت ... أنّ ابنها من قريش في الجماهير «5»
سبحان من ملّك عبّاد بقدرته ... لا يدفع الخلق محتوم المقادير
وقال بلال بن جرير: سألت أبي: أيّ شيء هجيت به أشدّ عليك؟ قال: قول العيث:
ألست كليبيّا إذا سيم خطّة ... أقرّ كإقرار الحليلة للبعل
كلّ كليبيّ صحيفة وجهه ... أذلّ لأقدام الرجال من النّعل
وكان بلال بن جرير شاعرا ابن شاعر ابن شاعر، لأنّ الخطفي كان شاعرا، وهو يقول:
ما زال عصياننا لله يسلمنا ... حتى دفعنا إلى يحيى ودينار
إلى عليجين لم تقطع ثمارهما ... قد طالما سجدا للشمس والنار «1»
ومن أخبث الهجاء قول جميل:
أبوك حباب سارق الضيف برده ... وجدّي يا شمّاخ فارس شمّرا
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء سوء يلقهم حيث سيّرا «2»
فإن تغضبوا من قسمة الله فيكم ... فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا
وقال كثيّر في نصيب، وكان أسود، ويكنى ابا الحجناء:
رأيت أبا الحجنإ في الناس حائرا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم
تراه على مالاحه من سواده ... وإن كان مظلوما، له وجه ظالم!
وكان يقال لسعد بن أبي وقاص: المستجاب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتقوا دعوة سعد.
فقال رجل بالقادسية فيه:
ألم تر أن الله أنزل نصره ... وسعد بباب القادسيّة معصم «3»
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فهنّ أيّم «4»
فقال سعد: اللهم! اكفني يده ولسانه. فخرس لسانه، وضربت يده فقطعت.
وذكر عند المبرّد محمد بن يزيد النحوي رجل من الشعراء، فقال: لقد هجاني ببيتين أنضج بهما كبدي! فاستنشدوه، فأنشدهم هذين البيتين:
سألنا عن ثمالة كل حيّ ... فكلّ قد أجاب ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدتهما جهاله
ولم يقل أحد في القبيح أحسن من قول أبي نواس:
وقائلة لها في وجه نصح ... علام قتلت هذا المستهاما
فكان جوابها في حسن ميس ... أأجمع وجه هذا والحراما «1»
وكان جرير يقول: إذا هجوت فأضحك. وينشد له:
إذا سلمت فتاة بني نمير ... تلقّم باب عصرطها التّرابا «2»
ترى برصا بمجمع إسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا «3»
وقوله أيضا:
وتقول إذ نزعوا الإزار عن استها ... هذي دواة معلّم الكتّاب
وقوله أيضا:
أحين صرت سماما يا بني لجأ ... وخاطرت بي عن أحسابها مضر
هيأتم عمرا يحمي دياركم ... كما يهيّأ لأست الخاري الحجر
وقال عليّ بن الجهم يهجو محمد بن عبد الملك الزيّات وزير المتوكل:
أحسن من سبعين بيتا سدى ... جمعك إياهنّ في بيت
ما أحوج الملك إلى ديمة ... تغسل عنه وضر الزيت «4»
ومن أخبث الهجاء قول زياد الأعجم:
قالوا الأشاقر تهجوني فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا «1»
وهم من الحسب الذاكي بمنزلة ... كطحلب الماء لا أصل ولا ورق «2»
لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا
وقوله أيضا:
قضى الله خلق الناس ثم خلقتم ... بقيّة خلق الله آخر آخر
فلم تسمعوا إلا الذي كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدقّ الحوافر «3»
وقال فيهم:
قبّيلة خيرها شرّها ... وأصدقها الكاذب الآثم
وضيفهم وسط أبياتهم ... وإن لم يكن صائما صائم
ونظير هذا قول الطرمّاح:
وما خلقت تيم وزيد مناتها ... وضبّة إلا بعد خلق القبائل
ومن أخبث الهجاء قول الطرمّاح في بني تميم:
لو حان ورد تميم ثم قيل لهم ... حوض الرسول عليه الأزد لم ترد
أو أنزل الله وحيا أن يعذّبها ... إن لم تعد لقتال الأزد لم تعد
وكلّ لؤم أباد الله سبّته ... ولؤم ضبّة لم ينقص ولم يزد «4»
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد
قوم أقام بدار الذلّ أوّلهم ... كما أقامت عليه جذمة الوتد «5»
ومن قول المساور بن هند:
ما سرّني أن قومي من بني أسد ... وأن ربي ينجّيني من النار

وأنهم زوّجوني من بناتهم ... وأن لي كل يوم ألف دينار
ومن أخبث الهجاء من غير إقذاع «1» :
بلاد نأى عني الصّديق وسبّني ... بها عنزيّ ثم لم أتكلّم
وقال عبيد:
يا أبا جعفر كتبتك سمحا ... فاستطال المداد فالميم لام
لا تلمني على الهجاء فلم يه ... جك إلا المداد والأقلام «2»
وقال سليمان بن أبي شيخ: كان أبو سعيد الراني يماري اهل الكوفة ويفضل أهل المدينة، فجاءه رجل من أهل الكوفة وسماه شرشيرا، وقال: كلب في جهنم يسمى شرشيرا، فقال:
عندي مسائل لا شرشير يعرفها ... إن سيل عنها ولا أصحاب شرشير
وليس يعرف هذا الدّين معرفة ... إلا حنيفيّة كوفيّة الدّور
لا تسألنّ مدينيّا فتكفره ... إلا عن البمّ والمثنى أو الزّير «3»
فكتب أبو سعيد إلى اهل المدينة: إنكم قد هجيتم فردّوا. فردّ عليه رجل من أهل المدينة يقول:
لقد عجبت لغاو ساقه قدر ... وكل أمر إذا ما حمّ مقدور
قالوا المدينة أرض لا يكون بها ... إلا الغناء وإلا البّم والزّير
لقد كذبت لعمر الله إنّ بها ... قبر النبيّ وخير الناس مقبور
قال: فما انتصر ولا انتصر به، فليته لم يقل شيئا.
وقال مساور الوراق في أهل القياس:
كنّا من الدّين قبل اليوم في سعة ... حتى بلينا بأصحاب المقاييس «4»
قاموا من السّوق إذ قلّت مكاسبهم ... فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبوس «1»
أمّا الغريب فأمسوا لا عطاء لهم ... وفي الموالي علامات المفاليس
فلقيه ابو حنيفة، فقال له: هجوتنا! نحن نرضيك. فبعث إليه بدراهم، فكف عنه وقال:
إذا ما الناس يوما قايسونا ... بمسألة من الفتيا ظريفه «2»
أتيناهم بمقياس صحيح ... بديع من طراز أبي حنيفه
إذا سمع الفقيه بها وعاها ... وأثبتها بحبر في صحيفه
ومن خبيث الهجاء قول الشاعر:
عجبت لعبدان هجوني سفاهة ... أن اصطبحوا من شائهم وتفيّلوا «3»
بجاد وريسان وفهر وغالب ... وعون وهدم وابن صفوة أخيل «4»
فأمّا الذي يحصيهم فمكثّر ... وأمّا الذي يطريهم فمقلّل
وقال أبو العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
قال ابن معن وجلى نفسه ... على القربات من الأهل
هل في جواري الحيّ من وائل ... جارية واحدة مثلي
أكنى أبا الفضل فيامن رأى ... جارية تكنى أبا الفضل
قد نقطت في خدّها نقطة ... مخافة العين من الكحل











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید