المنشورات

رواة الشعر

قال الأصمعي: ما بلغت الحلم «4» حتى رويت اثنى عشر ألف أرجوزة للأعراب.
كان خلف الأحمر أروى الناس للشعر وأعلمهم بجيّده.
قال مروان بن أبي حفصة: لما مدحت المهدي بشعري الذي أوله:
طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
أردت أن أعرضه على قرّاء البصرة، فدخلت المسجد الجامع، فتصفحت الحلق فلم أر حلقة أعظم من حلقة «1» يونس النحوي، فجلست إليه، فقلت له: إني مدحت المهدي بشعر، وأردت ألا أرفعه حتى أعرضه على بصرائكم، وإني تصفحت الحلق فلم أر حلقة أحفل من حلقتك، فإن رأيت أن تسمعه مني فافعل. فقال: يا ابن أخي، إن ههنا خلفا، ولا يمكن أحدنا أن يسمع شعرا حتى يحضر، فإذا حضر فأسمعه.
فجلست حتى أقبل خلف الأحمر، فلما جلس جلست إليه، ثم قلت له ما قلت ليونس، فقال: أنشد يا بن أخي، فأنشدته حتى أتيت على آخره فقال لي: أنت والله كأعشى بكر، بل أنت أشعر منه حيث يقول:
رحلت سميّة غدوة أجمالها ... غضبى عليك فما تقول بدالها
وكان خلف مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن وينحله «2» الشعراء. ويقال إن الشعر المنسوب إلى ابن أخت تأبط شرّا، وهو:
إنّ بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطلّ «3»
لخلف الأحمر، وإنما ينحله إياه.
وكذلك كان يفعل حماد الراوية: يخلط الشعر القديم بأبيات له.
قال حماد: ما من شاعر إلا قد زدت في شعره أبياتا فجازت عليه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت فأفسدت عليه الشعر. قيل له: وما البيت الذي أدخلته في شعر الأعشى؟ فقال:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصّلعا
قال حماد الراوية: أرسل إليّ أبو مسلم ليلا، فراعني ذلك، فلبست أكفاني ومضيت، فلما دخلت عليه تركني حتى سكن جأشي «4» ، ثم قال لي: ما شعر فيه أوتاد؟ «1» قلت: من قائله أصلح الله الأمير؟ قال: لا أدري. قلت: فمن شعراء الجاهلية أم شعراء الإسلام؟ قال: لا أدري. قال: فأطرقت حينا أفكّر فيه، حتى بدر إلى وهمي شعر الأفوه الازدي حيث يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا «2»
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمّع أوتاد وأعمدة ... يوما فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فقلت: هو قول الأفوه الأزدي أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات، فقال:
صدقت، انصرف إذا شئت! فقمت، فلما خطوت الباب لحقني أعوان له ومعهم بدرة، «3» فصحبوني إلى الباب، فلما أردت أن أقبضها منهم، قالوا: لا بد من إدخالها إلى موضع منامك! فدخلوا معي، فعرضت أن أعطيهم منها شيئا، فقالوا: لا تقدم على الأمير.
الأصمعي قال: أقبل فتيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال: ما جاء بكم؟
قالوا: جئنا نتحدث إليك. قال: كذبتم يا خبثاء! ولكن قلتم: كبر الشيخ فهلم بنا عسى أن نأخذ عليه سقطة «4» ! قال: فأنشدهم لمائة شاعر كلهم اسمه عمرو. قال الأصمعي: تحدثت أنا وخلف الأحمر فلم نزد على أكثر من ثلاثين.
وقال الشعبي: لست لشيء من العلوم أقل رواية من الشعر، ولو شئت لأنشدت شهرا ولا أعيد بيتا! وكان الخليل بن أحمد أروى «5» الناس للشعر ولا يقول بيتا.
وكذلك كان الأصمعي. وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر؟ قال: نظري لجيّده.
وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا أجده، والذي أجده لا أريده.
وقل لآخر: مالك تروي الشعر ولا تقوله؟ قال: لأني كالمسنّ: أشحذ ولا أقطع.
وقال الحسن بن هانيء: رويت أربعة آلاف شعر، وقلت أربعة آلاف شعر، فما رزأت «1» لشاعر شيئا.









مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید