المنشورات

الرشيد والأصمعي:

القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدثنا أحمد بن بشر الأطروش قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: أخبرني الأصمعي قال: تصرفت بي الأسباب «2» إلى باب الرشيد مؤملا للظفر، بما كان في الهمة دفينا، أترقب به طالع سعد، فاتصل بي ذلك إلى أن صرت للحرس مؤانسا بما استملت به مودّتهم، فكنت كالضيف عند أهل المبرّة، فطرفهم متوجهة بإتحافي، وطاولتني الغايات بما كدت به أن أصير إلى ملالة، غير أني لم أزل محييا للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفترة، وقلت في ذلك:
وأيّ فتى أعير ثبات قلب ... وساع ما تضيق به المعاني
تجاذبه المواهب عن إباء ... ألا بل لا تواتيه الأماني
فربّ معرّس لليأس أجلى ... عن الدّرك الحميد لدى الرّهان «3»
وأيّ فتى أناف على سمو ... من الهمّات ملتهب الجنان
بغير توسّع في الصدر ماض ... على العزمات والعضب اليماني «4»
فلم نبعد أن خرج علينا خادم في ليلة نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد، فقال: هل بالحضرة أحد يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر! رب قيد مضيقة قد فكه التيسير للإنعام! أنا صاحبك إن كان صاحبك من طلب فأدمن، وحفظ فأتقن. فأخذ بيدي. ثم قال: ادخل أن يختم الله لك بالإحسان لديه والتصويب، فلعلها أن تكون ليلة تعوّض صاحبتها الغنى. قلت: بشّرك الله بالخير! قال: ودخلت، فواجهت الرشيد في البهو جالسا كأنما ركب البدر فوق أزراره جمالا، والفضل بن يحيى إلى جانبه، والشمع يحدق به على قضب المنابر، والخدم فوق فرشه وقوف، فوقف بي الخادم حيث يسمع تسليمي، ثم قال: سلّم! فسلمت، فردّ، ثم قال: ينحّى قليلا روعه، إن وجد لروعه حسّا. فقعدت حتى سكن جأشي قليلا، ثم أقدمت، فقلت: يا أمير المؤمنين، إضاءة كرمك، وبهاء مجدك، مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذية له، أيسألني أمير المؤمنين فأجيب، أم أبتدىء فأصيب، بيمن أمير المؤمنين وفضله؟ قال: فتبسم الفضل، ثم قال: ما أحسن ما استدعى الاختبار استسهل به المفاتحة، وأجدر به أن يكون محسنا. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدّم مبرّزا محسنا في استشهاده على براءته من الحيرة، وأرجو أن يكون ممتعا. قال:
أرجو. ثم قال: ادن. فدنوت، فقال: أشاعر أم راوية؟ قلت: راوية يا أمير المؤمنين. قال: لمن؟ قلت: لذي جدّ وهزل بعد أن يكون محسنا. قال: والله ما رأيت أدعى لعلم، ولا أخبر بمحاسن بيان فتقته «1» الأذهان منك، ولئن صرت حامدا أثرك لتعرفن الإفضال متوجّها إليك سريعا. قلت: أنا على الميدان يا أمير المؤمنين، فيطلق أمير المؤمنين من عقالي مجيبا فيما أحبه قال:
قد أنصف القارة من راماها
ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بديّا؟ قلت: ذكرت العرب يا أمير المؤمنين أن التبابعة كانت لهم رماة لا تقع سهامهم في غير الحدق، فكانت تكون في الموكب الذي يكون فيه الملك، على الجياد البلق «2» ، بأيديهم الأسورة وفي أعناقهم الأطواق،فخرج من موكب الصّغد فارس معلم «1» بعذبات «2» سود في قلنسوته، قد وضع نشابته في الوتر، ثم صاح: أين رماة الحرب؟ قالوا: قد أنصف القارة من راماها.
والملك أبو حسان إذ ذاك المضاف إليه.
قال الرشيد: أحسنت، أرويت للعجاج ورؤبة شيئا؟ قلت: هما يا أمير المؤمنين يتناشدان لك بالقوافي وإن غابا عنك بالأشخاص. فمد يده فأخرج من تحت فراشه رقعة، ثم قال: أسمعني. فقلت:
أرّقني طارق هم طرقا
فمضيت فيها مضيّ الجواد في سنن ميدانه، تهدر بها أشداقي، حتى إذا صرت إلى مدح بني أمية ثنيت عنان اللسان إلى امتداحه المنصور في قوله:
قلت لزير لم تصله مريمه «3»
قال: أعن حيرة أم عن عمد؟ قلت: عن عمد، تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنت بارك الله فيك، مثلك يؤمل لهذا الموقف. قال الرشيد: ارجع إلى أول هذا الشعر. فأخذت من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلت، فقال الفضل: مالك تضيّق علينا كلّ ما اتسع لنا من مساعدة السّهر في ليلتنا هذه بذكر جمل أجرب؟ صره إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت، هي التي أخرجتك من دارك، وأزعجتك من قرارك، وسلبتك تاج ملكك، ثم ماتت، فعمل جلودها سياطا تضرب بها قومك ضرب العبيد! ثم قهقه، ثم قال: لا تدع نفسك والتعرض لما تكره. فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب، والحمد لله! قال الرشيد: أخطأت في كلامك يرحمك الله! لو قلت:
وأستغفر الله! قلت صوابا، إنما يحمد الله على النّعم. ثم صرف وجهه إليّ وقال: ما أحسن ما أدّيت في قدر ما سئلت! أسمعني كلمة عدي بن الرقاع في الوليد بن يزيد ابن عبد الملك، قوله:
عرف الديار توهّما فاعتادها
فقال الفضل. يا أمير المؤمنين، ألبستنا ثوب السهر ليلتنا هذه لاستماع الكذب! لم تأمره يسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك؟ قال: ويحك! إنه أدب وقلما يعتاض عن مثله، ولأن أسمع من ثقيف بعبارة تشغله العناية بها عمره، أحبّ إليّ من أن تشافهني به الرسوم، وللممتدح بهذا الشعر حركات سترد عليك، ولا تقدر أن تصدر من غير انتفاع بها، ولا أكون أول مستنّ طريقة ذكر لم تؤدها الرواية. قال الفضل:
قد والله يا أمير المؤمنين شاركتك في الشوق، وأعنتك على التّوق، ثم التفت إليّ الفضل فقال: احدبنا ليلتك منشدا، هذا سيدي أمير المؤمنين قد أصغى إليك مستمعا، فمرّ ويحك في عنان الإنشاد، فهي ليلة دهرك لم تنصرف إلا غانما. قال الرشيد: أما إذ قطعت على فاحلف لتشركني في الجزاء، فما كان لي في هذا شيء لم تقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت «1» نفسي على ذلك متقدما فلا تجعلنّه وعيدا، قال الرشيد: لا أجعله وعيدا. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التّيه على العرب كلّها، وإني أرى الخليفة والوزير وهما يتناظران في المواهب لي، فمررت في سنن الإنشاد حتى بلغت إلى قوله:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدّواة مدادها «2»
فاستوى جالسا، ثم قال: أتحفظ في هذا شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان الفرزدق لما قال عدي:
تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبيها؟ فقال جرير:
قلم أصاب من الدّواة مدادها
فما رجع الجواب حتى قال عدي:
قلم أصاب من الدّواة مدادها
فقلت لجرير: ويحك لكأن سمعك مخبوء في فؤاده! فقال جرير: اسكت، شغلني سبّك عن جيّد الكلام! ثم قال الرشيد: مرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها
قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صنع إذ سمع هذا البيت؟ قلت:
ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! قال: مرّ في إنشادك، فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
تأتيه أسلاب الأغرّة عنوة ... عصبا ويجمع للحروب عتادها «1»
قال الرشيد: لقد وصفه بحزم وعزم لا يعرض بينهما وكل «2» ولا استذلال: قال:
فماذا صنع؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء الله! قال:
أحسبك واهما. قلت: يا أمير المؤمنين، أنت أولى بالهداية، فليردّني أمير المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله:
ولقد أراد الله إذ ولّاكها ... من أمّة إصلاحها ورشادها
ثم قال: والله ما قلت هذا عن سمع، ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يكن يخطىء في مثل هذا. قال الأصمعي: وهو والله الصواب. ثم قال: مر في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله:
وعلمت حتى لا أسائل واحدا ... عن حرف واحدة لكي أزدادها
قال: وكان من خبرهم ماذا؟ قلت: ذكرت الرواة أنّ جريرا لما أنشد عدي هذا البيت، قال: بلى والله وعشر مئين «1» . قال عدي: وقر «2» في سمعك أثقل من الرصاص، هذا والله يا أمير المؤمنين المديح المنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الرصاص، هذا والله يا أمير المؤمنين المديح المنتقي. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مدحه وتشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين، لا يحسن عدي أن يقول:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
قال الرشيد: بلى قد أحسن. ثم التفت إليّ فقال: ما حفظت له في هذا الشعر شيئا حين قال:
أطفأت نيران الحروب وأوقدت ... نار قدحت براحتيك زنادها «3»
قلت: ذكرت الرواة أنه يا أمير المؤمنين حك يمينا بشمال مقتدحا بذلك، ثم قال:
الحمد لله على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: رويت لذي الرّمّة شيئا؟ قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أسألك سؤال امتحان، ولا كان هذا عليك، ولكنني أجعله سببا للمذاكرة، فإن وقع عن عرفانك، وإلا فلا ضيق عليك بذلك عندي، فماذا أراد بقوله:
ممرّ أمرّت متنه أسديّة ... يمانيّة حلّالة بالمصانع «4»
قلت: وصف يا أمير المؤمنين حمارا وحشيّا أسمنه بقل روضة تشابكت فروعه، ثم تواشجت عروقه، من قطر سحابة كانت في نوء الأسد، ثم في الذراع منه. قال:
أصبت، أفترى القوم علموا هذا من النجوم، بنظرهم، إذ هو شيء قلما يستخرج بغير أسباب للذين رويت لهم أصوله، أو أدّتهم إليه الأوهام والظنون؟ فالله أعلم بذلك.
قلت: يا أمير المؤمنين، هذا كثير في كلامهم، ولا أحسبه إلا عن أثر «1» ألقي إليهم. قال: قلما أجد الأشياء لا تثيرها إلا الفكر في القلوب، فإن ذهبت إلى أنه هبة الله. قال: ذهبت إلى ما أدّتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويت للشماخ شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: يعجبني منه قوله:
إذا ردّ من ثني الزّمام ثنت له ... جرانا كخوط الخيزران المموّج «2»
قلت: يا أمير المؤمنين، هي عروس كلامه. قال: فأيها الحسن الآن من كلامه؟
قلت: الرائية. وأنشدته أبياتا منها، قال: أمسك، ثم قال: أستغفر الله ثلاثا، أرح قليلا واجلس، فقد أمتعت منشدا، ووجدناك محسنا في أدبك، معبرا عن سرائر حفظك، ثم التفت إلى الفضل، فقال: لكلام هؤلاء ومن نقدّم من الشعراء، ديباج الكلام الخسروانيّ «3» يزيد على القدم جدّة وحسنا، فإذا جاءك الكلام الزيّن بالبديع، جاءك الحرير الصيني المذهب، يبقى على المحادثة في أفواه الرّواة، فإذا كان له رونق صواب، وعته الأسماع، ولذّ في القلوب، ولكن في الأقل منه، ثم قال: يعجبني مثل قول مسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته مفتخرا عليها بطول السّرى في اكتساب المغانم حيث قال:
أجدك هل تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك ينشر «4»
صبرت لها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر «5»
أفرأيت؟ ما ألطف ما جعلهما معدنا لكمال الصفات ومحاسنها! ثم التفت إليّ فقال:
أجد ملالة، ولعل أبا العباس يكون لذلك أنشط، وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه، فأقم معه مسامرا له! ثم نهض، فتبادر الخدم، فأمسكوا بيده حتى نزل عن فرشه، ثم قدمت النعل، فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يسوّي عقب النعل في رجله، فقال:
ارفق ويحك، حسبك قد عقرتني! قال الفضل: لله درّ العجم ما أحكم صنعتهم، لو كانت سنديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة! قال: هذه نعلي ونعل آبائي رحمة الله عليهم، وتلك نعلك ونعل آبائك، لا تزال تعارضني في الشيء ولا أدعك بغير جواب يمضّك «1» ثم قال: يا غلام، عليّ بصالح الخادم. فقال: يؤمر له بتعجيل ثلاثين ألف درهم في ليلته هذه.
قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره، لدعوت له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين، فدعا له بمثل ما أمر إلا ألف درهم ويصبح من غد فيلقى الخازن إن شاء الله.
قال الأصمعي: فما صليت الظهر إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.
وقال دعبل بن علي الخزاعي:
يموت رديء الشّعر من قبل أهله ... وجيّده يبقى وإن مات قائله
وقال أيضا:
إني إذا قلت بيتا مات قائله ... ومن يقال له، والبيت لم يمت









مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید