المنشورات

ما يعاب من الشعر وليس بعيب

لحماد
قال الاصمعي: سمعت حماد الراوية وأنشد رجل بيتا لحسان:
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل «4»
فقال: ما يعرف هذا الا في كلاب الحانات.
وأنشده آخر قول الشاعر:
لمن منزل بين المذانب والجسر «5»
فقال: ما يعرف هذا الا دار الياسيريين «6» .
بيت للفرزدق
ومما يعاب من الشعر وليس بعيب قول الفرزدق:
أيابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا بنت ذي البردين والفرس الورد
فقال من جهل المعنى ولم يعرف الخبر [لم يدرك] ما في هذا من المدح: ان يمدح رجلا بلباس البردين وركوب فرس ورد، إنما معناه: ما قال ابو عبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان، فأخرج إليهم بردي محرّق، وقال: ليقم اعز العرب قبيلة فليلبسهما. فقام عامر بن احيمر بن بهدلة فاتّزر بأحدهما وتردّى بالآخر، فقال له النعما: أنت اعز العرب قبيلة؟ قال: العز والعدد من العرب في معدّ، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني «1» ، فسكت الناس، فقال النعمان. هذه [حالك في] عشيرتك فكيف أنت كما تزعم في نفسك وأهل بيتك؟ فقال: أنا ابو عشرة، وعم عشرة، وخال عشرة، وأمّا انا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وضع قدمه في الارض، وقال: من أزالها فله مائة من الابل! فلم يتعاط ذلك احد، فذهب بالبردين، فسمى ذا البردين، وفيه يقول الفرزدق:
فما تمّ في سعد ولا آل مالك ... فلام إذا سيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان بردى محرّق ... لمجد معدّ والعديد المحصّل
بيت للأعشى
ومما يعاب من الشعر وليس بعيب، قول الاعشى في فرس النعمان، وكان يسمى اليحموم:
ويأمر لليحموم كل عشية ... بقتّ وتعليق فقد كاد يسنق «2»
فقالوا: ما يمدح به أحد من السوقة فضلا عن الملوك: ان يقوم بفرس ويأمر له بالعلف حتى كاد يسنق. وليس هذا معناه، وإنما المعنى فيه ما قال أبو عبيدة: أن ملوك العرب بلغ من حزمها ونظرها في العواقب ان احدهم لا يبيت الا وفرسه موقوف بسرجه ولجامه بين يديه قريبا منه، مخافة عدو يفجؤه أو حالة تصعب عليه، فكان للنعمان فرس يقال له اليحموم، فيتعاهده كل عشية، وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأفنية البيوت.
بيت لزهير
ومما عابوه وليس بعيب، قول زهير:
قف بالدّيار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرياح والدّيم «1»
فنفى ثم حقق في معنى واحد، فنقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لانه زعم ان الديار لم يعفها القدم، ثم انه انتبه من مرقده فقال: بلى، عفاها وغيّرها أيضا الارياح والديم! وليس هذا معناه الذي ذهب اليه، وإنما معناه أن الديار لم تعف في عينه، من طريق محبته لها وشغفه بمن كان فيها.
بيت لبعض الشعراء
وقال غيره في هذا المعنى ما هو أبين من هذا، وهو:
ألا ليت المنازل قد بلينا ... فلا يرمين عن شزر حزينا «2»
فقوله: ألا ليت المنازل قد بلينا. أي. بلى ذكرها، ولكنها تتجدّد على طول البلى بتجدّد ذكرها.
وقال الحسن بن هانىء: في هذا المعنى فلخصه وأوضحه وشنّفه «3» وقرّطه حيث يقول:
لمن دمن تزداد طول نسيم ... على طول ما أقوت وحسن رسوم «1»
تجافي البلى عنهم حتى كأنما ... لبسن على الاقواء ثوب نعيم «2»
مروان وابن يزيد
ومما عيب من الشعر بعيب، ما يروى عن مروان بن الحكم أنه قال لخالد بن يزيد ابن معاوية وقد استنشده من شعره فأنشده:
فلو بقيت خلائف آل حرب ... ولم يلّبسهم الدهر المنونا
لأصبح ماء أهل الارض عذبا ... وأصبح لحم دنياهم سمينا
فقال له مروان: «منونا» و «سمينا» والله إنها لقافية ما اضطرّك إليها الا العجز.
وهذا مما لا عجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر، وما أرى العيب فيه إلا على ما رآه عيبا، لأن الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كلّها قديمها وحديثها، قال عبيد ابن الابرص:
وكلّ ذي غيبة ينوب ... وغائب الموت لا يئوب «3»
من يسال الناس يرموه ... وسائل الله لا يخيب
ومثله من المحدثين:
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
بيت لذي الرمة
ومما عيب من الشعر وليس بعيب. قول ذي الرمة:
رأيت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح: انتجعي بلالا «4»
ولما أنشد هذا الشعر بلال بن ابي بردة قال: يا غلام مر لصيدح بقتّ وعلف،فإنها هي انتجعتنا. وهذا من التعنّت الذي لا انصاف معه، لان قوله: انتجعي بلالا، إنما اراد نفسه، ومثله في كتاب الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
«1» ، وإنما أراد أهل القرية وأهل العير.
وكان عمر بن الخطاب يقول في بعض ما يرتجز به من شعره:
إليك يعدو قلعا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها «2»
فجعل الدين للناقة، وإنما اراد صاحب الناقة.
ولم تزل الشعراء في أماديحها تصف النوق وزيارتها لمن تمدحه، ولكن من طلب تعنتا وجده، أو تجنيا على الشاعر أدركه عليه، كما فعل صريع الغواني بالحسن ابن هانىء حين لقيه، فقال له: ما يسلم لك بيت عندي من سقط! قال: فأي بيت أسقطت فيه، قال: أنشدني أي بيت شئت. فأنشده:
ذكر الصّبوح بسحرة فارتاحا ... وأملّه ديك الصّباح صباحا
فقال له: قد ناقضت في قولك، كيف يمله ديك الصباح صياحا، وإنما يبشره بالصبوح الذي ارتاح له! فقال له الحسن: فأنشدني أنت. من قولك. فأنشده:
عاصى العزاء فراح غير مفنّد ... وأقام بين عزيمة وتجلّد
قال له: قد ناقضت في قولك، إنك قلت:
عاصى العزاء فراح غير مفند
ثم قلت:
وأقام بين عزيمة وتجلد
فجعلته رائحا مقيما في مقام واحد، والرائح غير المقيم.
والبيتان جميعا مؤتلفان، ولكن من طلب عيبا وجده.
بيت للمرقش
ومما عابه ابن قتيبة وليس بعيب، قول المرقش الاصغر:
صحا قلبه عنها على أنّ ذكرها ... إذا ذكرت دارت به الأرض قائما
فقال له: كيف يصحو من كانت هذه صفته. والمعنى صحيح، وإنما ذهب إلى أن حاله هذه، على ما تقدم من سوء حاله، حال صحو عنده، ومثل هذا في الشعر كثير، لأن بعض الشر أهون من بعض. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمه أبي طالب: إنه أخف الناس عذابا يوم القيامة، يحذى نعلين من نار يغلي منهما دماغه! وهذا من العذاب الشديد، وإنما صار خفيفا عند ما هو أشد منه، فزعم المرقّش أنه عند نفسه صاح.
إذ تبدّل حاله أسهل مما كان فيه.
بيت لابن هانىء
وقد عاب الناس قول الحسن بن هانيء:
وأخفت أهل الشّرك حتى إنه ... لتخافك النّطف التي لم تخلق
فقالوا: كيف تخافه النطف التي لم تخلق؟ ومجاز هذا قريب إذا لحظ أن من خاف شيئا خافه بجوارحه وسمعه وبصره ولحمه وروحه، والنطف داخلة في هذه الجملة، فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النطف التي في أصلابها.
وقال الشاعر:
ألا ترثي ... يحبّك لحمه ودمه
وقال المكفوف:
أخبّكم حبّا على الله أجره ... تضمّنه الأحشاء واللحم والدم
العتابي ومنصور النميري
ولقى العتابي منصورا النميري، فسأله عن حاله فقال: إني لمدهوش «1» : وذلك أني تركت امرأتي وقد عسر عليها ولادها. فقال له العتابي: ألا أدلك على ما يسهّل عليها! قال: وما هو؟ قال: اكتب على رحمها: «هارون» . قال: وما معناك في هذا؟ قال: ألست القائل فيه:
إن أخلف القطر لم تخلف مواهبه ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
فقال: أبا لخلفاء تعرّض وفيهم تقع وإياهم تعيب؟ فيقال إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العتابي، فكتب إلى عبد الصمد عمه يأمره بقتله. فكتب إليه عبد الصمد يشفع له، فوهبه له.









مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید