المنشورات

الاستعارة

لم تزل الاستعارة قديما تستعمل في المنظوم والمنثور، وأحسن ما تكون أن يستعار المنثور من المنظوم، والمنظوم من المنثور، وهذه الاستعارة خفية لا يؤبه بها لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال، وأكثر ما يجتلبه الشعراء، ويتصرف فيه البلغاء، إنما يجري فيه الآخر على السنن الأول، وأقل ما يأتي لهم معنى لم يسبق إليه أحدا، إما في منظوم وإما في منثور، لأن الكلام بعضه من بعض، ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للأخر شيئا. ألا ترى أن كعب بن زهير، وهو في الرعيل الأول والصدر المتقدم، قد قال في شعره:
ما أرانا نقول إلا معارا ... أو معادا من قولنا مكرورا
ولكن قولهم: إن الآخر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يحسّنه ويقرّبه ويوضحه فهو أولى به من الأول، وذلك كقول الأعشى:
وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها
فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانيء فحسنه وقرّبه إذ قال:
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الدّاء
وقال القطامي:
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي، ولأمّ المخطيء الهبل «1»
أخذه من قول المرقّش:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
وقال قيس بن الخطيم:
تبدّت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب «2»
أخذه بعض المحدثين فقال:
فشبهتها بدرا بدا منه شقّه ... وقد سترت خدا فأبدت لنا خدّا
وأذرت على الخدّين دمعا كأنه ... تناثر درّ أو ندى واقع الوردا «3»
وأخذه آخر فقال:
يا قمرا للنّصف من شهره ... أبدى ضياء لثمان بقين
وأخذه بشار فقال:
صدت نجدّ وجلت عن خدّ ... ثمّ انثنت كالنّفس المرتدّ
فلم يفسد الآخر قول الأول، ولم يكن الأول بالمعنى أولى من الآخر.
وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله، وهو قولي:
كأنّ التي يوم الوداع تعرّضت ... هلال بدا محقا على أنه تمّ «4»
وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم، ومن المنظوم في المنثور، فإنها أحسن استعارة.








مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید