المنشورات

ما أدرك على الشعراء

قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أدركت العلماء بالشعر على امرىء القيس قوله:
أغرك منّي أنّ حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وقالوا: إذا لم يغرّ هذا فما الذي يغرّ؟ ومعناه في هذا البيت يناقض البيت الذي قبله حيث يقول:
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل
لأنه ادعى في هذا البيت فضلا للتجلد وقوة الصبر بقوله:
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل وزعم في البيت الثاني أنه لا تحمّل فيه للصبر ولا قوة على التمالك بقوله:
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وأقبح من هذا عندي قوله:
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدّمقس المفتل «2»
ومما ادرك على زهير قوله في الضفادع:
يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغمّ والغرقا «3»
وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء مخافة الغم والغرق، وإنما ذلك لانهن يبتن في الشطوط.
ومما أدرك على النابغة قوله يصف الثور:
يحيد عن أستن سود أسافله ... مثل الإمإ الغوادي تحمل الحزما «1»
قال الاصمعي: إنما توصف الإماء في مثل هذا الموضع بالرواح لا بالغدوّ، لانهن يجئن بالحطب إذا رحن. قال الأخنس التغلبي:
تظل بها ربد النّعام كأنها ... إماء يرحن بالعشيّ حواطب «2»
وأخذ عليه «3» في وصف السيف قوله:
يقدّ السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقد بالصفاح نار الحباحب «4»
فزعم أنه يقدّ الدرع المضاعفة، والفارس، والفرس، ثم يقع في الأرض فيقدح النار من الحجارة، وهذا من الإفراط القبيح. وأقبح عندي من هذا في وصف المرأة قوله:
ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بأعلى مكة البرما «5»
ومما أخذ عليه قوله:
خطا طيف حجن في حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع
فشبه نفسه بالدّلو، وشبه النعمان بخطاطيف حجن، يريد خطاطيف معوجة تمدّ بها الدلو. وكان الأصمعي يكثر التعجب من قوله:
وغيّرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاك من عار
ومما أدرك على المتلمّس قوله:
وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره ... بناج عليه الصّيعرية مكدم «1»
والصيعرية: سمة النوق، فجعلها صفة للفحل، وسمعه طرفة وهو صبي ينشد هذا البيت، فقال: استنوق الجمل! فضحك الناس، وصارت مثلا.
أخذ عليه أيضا قوله:
أحارث انا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمسّ دم دما «2»
وهذا من الكذب المحال.
ومما أدرك على طرفة قوله:
أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كل أمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هدّاب الأزر
فذكر أنهم يعطون إذا سكروا، ولم يشترط لهم ذلك إذا صحوا كما قال عنترة:
وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرّمي «3»
ومما أدرك على عدي بن زيد قوله في صفة الفرس:
فضاف يفرّي جلّه عن سراته ... يبذّ الجياد فارها متتابعا «4»
ولا يقال للفرس فاره، وإنما يقال له جواد وعتيق، ويقال للبرذون والبغل والحمار: فاره.
ومما أدرك عليه وصفه الخمر بالخضرة، ولا يعلم أحد وصفها بذلك، فقال:
والمشرف الهنديّ يسقى به ... أخضر مطموثا بمإ الخريص «1»
ومما أدرك على أعشى بكر قوله:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول «2»
وهذه الالفاظ الاربعة في معنى واحد.
ومما أدرك على لبيد قوله:
ومقام ضيّق فرّجته ... بمقامي ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل
فظن أن الفيّال أقوى الناس، كما أن الفيل أقوى البهائم.
ومما أدرك على عمرو بن أحمر الباهلي قوله يصف المرأة:
لم تدر ما نسج اليرندج قبلها ... ودراس أعوص دارس متجدّد «3»
اليرندج: جلود سود. فظن أنه شيء ينسج، ودراس أعوص: يريد انها لم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفى أحيانا ويتبين احيانا. وقد اتى ابن احمر في شعره بأربعة ألفاظ لم تعرف في كلام العرب: منها أنه سمى النار ماموسة، ولا يعرف ذلك، قال:
كما تطايح عن ماموسة الشّرر
وسمى حوار الناقة بابوسا، ولا يعرف ذلك، فقال:
حنّت قلوصي إلى بابوسها جزعا ... فما حنينك أمّا أنت والذكر «4»
وفي بيت آخر يذكر فيه البقرة:
... وبنّس عنها فرقد خصر أي تأخر، ولا يعرف التبنس، وقال:
وتقنّع الحرباء أرنته يريد مالفّ على الرأس، ولا تعرف الأرنة إلا في شعره.
ومما أدرك على نصيب بن رباح قوله:
أهيم بدعد ما حييت فإن امت ... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي
تلهف على من يهيم بها بعده.
ومما أدرك على الراعي قوله في المرأة:
تكسو المفارق واللّبّات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافرو درّاج «1»
أراد المسك، فجعله من قصب، والقصب: المعي فجعل المسك من قصب دابة تعتلف الكافور فيتولد عنها المسك.
ومما أدرك على جرير قوله في بني الفدوكس رهط الاخطل:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إليّ قطينا
القطين في هذا الموضع: العبيد الإماء. وقيل له: أبا حزرة، ما وجدت في تميم شيئا تفخر به عليهم حتى فخرت بالخلافة؟ لا والله ما صنعت في هجائهم شيئا.
ومما أدرك على الفرزدق قوله:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا او مجلّف «2»
وقد أكثر النحويون الاحتيال لهذا البيت ولم يأتوا فيه بشيء يرضي ومثل ذلك قوله:
غداة أحلّت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف والخمر «1»
وكان حصين بن أصرم قد حلف ألا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره، فأدركه في هذا اليوم الذي ذكره، فقال: عبيطات السدائف. فنصب «عبيطات السدائف» ورفع «الخمر» . وإنما هي معطوفة عليها وكان وجهها النصب، فكأنه أراد: وأحلّت له الخمر.
ومما أدرك على الأخطل قوله في عبد الملك بن مروان:
وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبيض لا عاري الخوان ولا جدب «2»
وهذا مما لا يمدح به خليفة.
وأخذ عليه قوله في رجل من بني أسد يمدحه، وكان يعرف بالقين ولم يكن قينا، فقال فيه:
نعم المجير سماك من بني أسد ... بالمرج إذا قتلت جيرانها مضر «3»
قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طيّر عن أثوابه الشّرر
وهذا مدح كالهاجاء.
ومما أدرك على ذي الرّمة:
تصغي إذا شدّها بالكور جارحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب «4»
وسمعه اعرابي ينشده فقال: صرع والله الرجل! ألا قلت كما قال عمك الراعي:
وواضعة خدّها للزّما ... م فالخدّ منها له أصعر «1»
فلا تعجل المرء قبل الرّكو ... ب وهي بركبته أبصر
وهي إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
ومما أدرك عليه أيضا قوله:
حتى إذا دوّمت في الأرض راجعه ... كير ولو شاد نجّى نفسه الهرب
قالوا: التدويم إنما يكون في الجوّ، يقال: دوم الطائر في السماء، إذا حلق واستدار، ودوّى في الأرض، إذا استدار فيها.
ومما أدرك على أبي الطّمحان القيني قوله:
لمّا تحمّلت الحمول حسبتها ... دوما بأيلة ناعما مكموما
الدوم: شجر المقل، وهو لا يكمّ، وإنما يكم النخل «2» .
ومما أخذ على العجاج قوله:
كأنّ عينيه من الغئور ... قلتان أو حوجلتا قارور «3»
صيّرتا بالنّضج والتصيير ... صلاصل الزيت إلى الشّطور
الحوجلتان: القارورتان، جعل الزجاج ينضح ويرشح.
ومما أدرك على رؤبة قوله:
كنتم كمن أدخل في حجر يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
جعل الأفعى دون الأسود، وهي فوقه في المضرّة. وأخذ عليه في قوله في وصف الظليم:
وكلّ زجّاء سخام الخمل ... تبري له في زعلات خطل»
فجعل للظليم عدّة إناث، كما يكون للحمار، وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
وأخذ عليه قوله يصف الراعي:
لا يلتوي من عاطس ولا نغق «1»
إنما هو النغيق والنّغاق وإنما يصف الرامي، وأدرك عليه قوله:
أقفرت الوعثاء والعثاعث ... من أهلها والبرق البرارث «2»
إنما هي البراث جمع برث، وهي الارض اللينة. وأدرك عليه قوله:
يا ليتنا والدهر جري السّمّة
انما يقال: السّمّهى: أي في الباطل وأخذ عليه قوله:
أو فضة أو ذهب كبريت
قال: فسمع بالكبريت أنه احمر فظنّ انه ذهب.
ومما يستقبح من تشبيهه قوله في النساء:
يلبسن من لين الثّياب نيما
والنيم: الفرو القصير، وأخذ عليه قوله في قوائم الفرس:
يهوين شتّى ويقعن وقفا
وأنشده مسلم بن قتيبة، فقال له: أخطأت يا أبا الجحاف، جعلته مقيّدا. قال له رؤبة: أدنني من ذنب البعير.
ومما أدرك على أبي نخيلة الراجز قوله في وصف المرأة.
مريّة لم تلبس المرقّقا ... ولم تذق من البقول الفستقا «3»
فجعل الفستق من البقول، وإنما هو شجر.
تسبح أخراه ويطفو أوّله
قال الاصمعي: إذا كان كذلك فحمار الكسّاح أسرع منه: لأنّ اضطراب مؤخره قبيح، وإنما الوجه فيه ما قال أعرابي في وصف فرس أبي الاعور السلمي:
مرّ كلمع البرق سام ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره
فما يمسّ الأرض منه حافره
وأخذ عليه أيضا في الورود قوله:
جاءت تساقى في الرعيل الأوّل ... والظّلّ عن أخفافها لم يفضل
فوصف أنها وردت في الهاجرة، وإنما خير الورود غلسا «1» والماء بارد، كما قال الآخر:
فوردت قبل الصباح الفائق «2» وكقول لبيد بن ربيعة العامري:
إنّ من وردي لتغليس النّهل «3»
وقال آخر:
فوردن قبل تبيّن الألوان
وأنشد بشار الأعمى قول كثيّر عزة:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفّ تلين «4»
فقال: لله أبو صخر! جعلها عصا خيزرانة، فوالله لو جعلها عصا زبد لهجّنها، ألا قال كما قلت:
وبيضاء المحاجر من معدّ ... كأنّ حديثها قطع الجمان «1»
إذا قامت لحاجتها تثنّت ... كأن عظامها من خيزران
ودخل العتابيّ على الرشيد فأنشده في وصف الفرس:
كأن أذنيه إذا تشوّفا ... قادمة او قلما محرّفا
فعلم الناس أنه لحن، ولم يهتد احد منهم الى اصلاح البيت غير الرشيد، فانه قال:
قل:
تخال أذنيه إذا تشوّفا
والراجز وإن كان لحن فإنه اصاب التشبيه.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید