المنشورات

السويقي في ضر ناله

حدث أبو اسحاق يحيى بن محمد الحواري، قال: سمعت شيخا من اهل البصرة يقول: قال ابراهيم السويقي مولي المهالبة: تتابعت عليّ سنون ضيّقة، وألحّ عليّ العسر وكثرة العيال وقلّة ذات اليد؛ وكنت مشتهرا بالشعر أقصد به الإخوان وأهل الاقدار وغيرهم، حتى جفاني كلّ صديق، وملّني من كنت أقصده؛ فأضرّ بي ذلك جدا؛ فبينما أنا ذات يوم جالس مع امرأتي في يوم شديد البرد، إذ قالت: يا هذا، قد طال علينا الفقر، وأضر بنا الجهد؛ وقد بقيت في بيتي كأنك زمن «3» ، هذا مع كثرة الولد؛ فأخرج عني واكفني نفسك، ودعني مع هؤلاء الصبيان أقوم بهم مرة وأقعد بهم أخرى. وألحّت عليّ في الخصومة، وقالت لي: يا مشئوم، تعلمت صناعة لا تجدي عليك شيئا! فضجرت منها ومن قولها، وخرجت على وجهي في ذلك البرد والريح، وليس عليّ إلا فرو خلق «1» ، ليس فوقه دثار، ولا تحته شعار، إلا ازار على عنقي؛ ثم جاءت ريح شديدة، فذهبت به عن يدي، وتفرّقت أجزاؤه عني من بلاه وكثرة رقاعه، وعلى عنقي طيلسان «2» ليس عليّ منه إلا رسمه.
فخرجت والله متحيرا لا ادري أين أقصد ولا حيث أذهب؛ فبينما أنا أجيل الفكرة، إذ أخذتني سماء بفطر متدارك، فدفعت على دار على بابها روشن «3» مطلّ ودكان نظيف وليس عليه أحد؛ فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر.
فقصدت قصد الدار، فإذا بجارية قاعدة، قد لزمت باب الدار كالحافظة عليه؛ فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت: أنا- ويحك- لست بسائل، ولا أنا ممن تتخوّف ناحيته! فجلست على الدكان، فلما سكنت نفسي سمعت نغمة رخيمة من وراء الباب، تدلّ على نغمة امرأة: فأصغيت، فإذا بكلام يدل على عتاب؛ ثم سمعت نغمة اخرى مثل تلك، وهي تقول فعلت وفعلت! والاخرى تقول: بل انت فعلت وفعلت! إلى أن قالت إحداهما: أنا- جعلت فداك- إن كنت أسأت فاغفري؛ واحفظي فيّ بيتين لمولانا ابراهيم السويقي! فقالت الاخرى: وما قال؟ فانه يبلغني عنه اشعار ظريفة. فأنشدتها تقول:
هبيني يا معذّبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت
فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت
فقالت: ظرف والله وأحسن! فلما سمعت ذكري وذكر «مولانا» علمت أنهما من بعض نساء المهالبة؛ فلم أتمالك أن دفعت الباب وهجمت عليهما، فصاحتا: وراءك يا شيخ عنّا حتى نستتر! وتوهّمتا أنني من أهل الدار؛ فقلت لهما. جعلت فداكما، لا تحتشما مني؛ فإني أنا ابراهيم السويقي؛ فبالله، وبحق حرمتي منكنّ، إلّا شفّعتني فيها، ووهبت لي ذنبها، واسمعي مني فأنا الذي أقول:
خذي بيدي من الحزن الطويل ... فقد يعفو الخليل عن الخليل
أسأت فأجملي تفديك نفسي ... فما يأتي الجميل سوى الجميل
فقالت: قد فعلت وصفحت عن زلّتها «1» ؛ ثم قالت: يا أبا إسحاق، مالي أراك بهذه الهيئة الرثة والبزّة الخلقة! فقلت: يا مولاتي، تعدّى عليّ الدهر، ولم ينصفني الزمان، وجفاني الاخوان، وكسدت بضاعتي. فقالت: عزّ عليّ ذلك وأومأت «2» إلى الأخرى؛ فضربت بيدها على كمها، فسلّت دملجا «3» من ساعدها، ثم ثنت باليد الاخرى، فسلت منها دملجا آخر؛ فقالت: يا أبا اسحاق، خذ هذا واقعد على الباب مكانك وانتظر الجارية حتى تأتيك. ثم قالت: يا جارية، سكن المطر؟ قالت: نعم. فقامتا، وخرجت وقعدت مكاني؛ فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسة أثواب وصرّة فيها ألف درهم؛ وقالت: تقول لك مولاتي:
أنفق هذه، فإذا احتجت فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله! فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي، قالت: هذا لبناتي، وكابرتني عليهما؛ فدخلت السوق فبعتهما بخمسين دينارا وأقبلت؛ فلما فتحت الباب صاحت امرأتي وقالت: قد جئت أيضا بشؤمك! فطرحت الدنانير والدراهم بين يديها والثياب؛ فقالت: من أين هذا؟ قلت: من الذي تشاءمت به وزعمت أنه بضاعتي التي لا تجدي! فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم، وهي اليوم في غاية البركة!











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید