المنشورات

مقاطع الشعر ومخارجه

اعلم بأنك متى ما نظرت بعين الإنصاف، وقطعت بحجة العقل، علمت أن لكل ذي فضل فضله، ولا ينفع المتقدم تقدّمه، ولا يضرّ المتأخر تأخّره؛ فأما من أساء النظم ولم يحسن التأليف فكثير، كقول القائل:
شرّ يوميها وأغواه لها ... ركبت هند بحدج جملا «2»
شرّ يوميها، نصب على الحال، وإنما معناه: ركبت هند جملا بحدج في شرّ يوميها.
وكقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملّكا ... أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
معناه: ما مثل هذا الممدوح في الناس إلا الخليفة الذي هو خاله، فقال:
أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه
فبّعد المعنى القريب، ووعّر الطريق السهل، ولبّس المعنى بتوعّر اللفظ وقبح البنية حتى ما يكاد يفهم.
ومثل هذا إلا أنه أقرب منه إلى الفهم قول القائد:
بينما ظلّ ظليل ناعم ... طلعت شمس عليه فاضمحل
يريد: حتى طلعت شمس عليه:
ومثله قول الآخر:
إنّ الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتّكل «1»
يريد: من يتكل عليه.
ولله در الأعشى حيث قال:
لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس إلا دونها الكلل
وأبين منه قول النابغة:
ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بأعلى مكّة البرما «2»
وقد حذا على مثال قول النابغة بعض المبرّزين من أهل العصر، فقال.
ليست من الرّمص أشفارا إذا نظرت ... ولا تبيع بفوق الصّخرة الرّغفا «3»
فقيل له: ما معناك في هذا؟ قال: هو مثل قول النابغة. وأنشد البيت وقال: ما الفرق بين أن تبيع البرم أو تبيع الرغف، وبين أن تكون رمصاء العينين أو سوداء العقبين.
وانظر إلى سهولة معنى الحسن بن هانيء وعذوبة ألفاظه في قوله:
حذر امريء ضربت يداه على العدا ... كالدّهر فيه شراسة وليان «4»
وإلى خشونة ألفاظ حبيب الطائي في هذا المعنى حيث يقول:
شرست بل لنت بل قابلت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيه السهل والجبل
وقد يأتي من الشعر ما لا فائدة له ولا معنى، كقول القائل:
الليل ليل، والنهار نهار ... والأرض فيها الماء والأشجار!
وقال الأعشى:
إن محلّا وإن مرتحلا ... وإن في السّفّر إذ مضى مثلا «1»
وقال إبراهيم الشيباني الكاتب: قد تكون الكلمة إذا كانت مفردة حوشية بشعة، حتى إذا وضعت في موضعها وقرنت مع إخوتها حسنت؛ كقول الحسن بن هانيء:
ذو حصر أفلت من كرّ القبل
والكرّ كلمة خسيسة، ولا سيما في الرقيق والغزل والنسيب، غير أنها لما وضعت في موضعها حسنت.
وكذلك الكلمة الرقيقة العذبة ربما قبحت ونفرت إذا لم توضع في موضعها، مثل قول الشاعر:
رأت رائحا جونا فقامت غريرة ... بمسحاتها جنح الظّلام تبادره «2»
فأوقع الجافي الجلف هذه اللفظة غير موقعها، وبخسها حقّها حين جعلها في غير مكانها حقا؛ لأن المساحي لا تصلح الغرائر.
واعلم أنه لا يصلح لك شيء من المنثور والمنظوم، إلا أن تجري منه على عرق وأن تتمسك منه بسبب، فأما إن كان غير مناسب لطبيعتك، وغير ملائم لقريحتك، فلا تنض «3» مطيّتك في التماسه، ولا تتعب نفسك إلى انبعاثه، باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم، فإن ذلك غير مثمر لك ولا مجد عليك، ما لم تكن الصناعة ممازجة لذهنك، وملتحمة بطبعك.
واعلم أن من كان مرجعه اغتصاب نظم من تقدمه، واستضاءته بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم تكن معه أداة تولّد له من بنات ذهنه، ونتائج فكره، الكلام الجزل والمعنى الحفل، لم يكن من الصناعة في عير ولا نفير «1» ، ولا ورد ولا صدر؛ على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين، ودرس رسائل المتقدمين، هو على كل حال مما يفتق اللسان، ويقوي البيان، ويحد الذّهن، ويشحذ الطبع، إن كانت فيه بقية وهناك خبيّة.
واعلم أن العلماء شبهت المعاني بالأرواح والألفاظ بالأجساد واللباب، فإذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزل، وكساه لفظا حسنا، وأعاره مخرجا سهلا، ومنحه دلا مونقا- كان في القلب أحلى، وللصدر أملى؛ ولكنه بقي عليه أن يؤلفه مع شقائقه وقرائنه، ويجمع بينه وبين أشباهه ونظائره، وينظمه في سلكه، كالجوهر المنثور:
الذي إذا تولى نظمه الناظم الحاذق، وتعاطى تأليفه الجوهريّ العالم، ظهر له بأحكام الصنعة ولطيف الحكمة حسنا هو فيه، وكساه ومنحه بهجة هي له، وكذلك كلما احلولى الكلام وعذب وراق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشدّ اتصالا بالقلوب، وأخف على الأفواه؛ لا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف، لم يسمه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقيد باستهلاكه، كقول ابن أبي كريمة:
قفاه وجه، والذي وجهه ... مثل قفاه يشبه الشّمسا
فهجّن المعنى بتعقد مخارج الألفاظ؛ وأخذه الحسن بن هانيء فأوضحه وسهله قال:
بأبي أنت من غزال غرير ... بزّ حسن الوجوه حسن قفاكا «2»
وكلاهما أخذه من حسان بن ثابت حيث يقول:
قفاؤك أحسن من وجهه ... وأمّك خير من المنذر «1»
وقد يأتي من الشعر في طريق المدح ما الذمّ أولى به من المدح، ولكنه يحل ما قبله وما بعده، ومثله قول حبيب:
لو خرّ سيف من العيوق منصلتا ... ما كان إلا على هاماتهم يقع
هذا لا يجوز ظاهره في شيء من المدح، وإنما يجوز في الذم والنحس؛ لو وصفت رجلا بأنه أنحس الخلق، لم تصفه بأكثر من هذا، وليس للشجاعة فيه وجه؛ لأن قولهم «لو خر سيف من السماء لم يقع إلا على رأسه» .
أن تقول: هذا رأس كلّ نحس.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید