المنشورات

قول في النحول

قال عمر بن أبي ربيعة القرشي يصف نحول جسمه وشحوب لونه في شعره الذي يقول فيه:
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر «1»
أخا سفر جوّاب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر «2»
قليلا على ظهر المطيّة شخصه ... خلا ما نفى عنه الرداء المحبّر «3»
وفي هذا الشعر يقول:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبّت بالعشاء وأنؤر
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروّح رعيان ونوّم سمّر «4»
وخفّض عني الصّوت أقبلت مشية ال ... حباب وركني خيفة القوم أزور «5»
فحيّيت إذ فاجأتها فتلهّفت ... وكادت بمكتوم التحيّة تجهر
وقالت وعضّت بالبنان: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف ... رقيبا وحولي من عدوّك حضّر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة ... سرت بك أم قد نام من كنت تحذر
فقلت لهابل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عين من الناس تنظر
فيا لك من ليل تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويا لك من ملهى هناك ومجلس ... لنا لم يكدّره علينا مكدّر
يمجّ ذكيّ المسك منها مفلّج ... رقيق الحواشي ذو غروب مؤشّر «1»
وترنو بعينيها إليّ كما رنا ... إلى ربرب وسط الخميلة جؤذر «2»
بروق إذا تفترّ عنه كأنه ... حصى برد أو أقحوان منوّر
فلما تقضي الليل إلا أقلّه ... وكادت توالي نجمه تتغوّر
أشارت بأنّ الحيّ قد حان منهم ... هبوب ولكن موعد لك غزور «3»
فما راعني إلا مناد برحلة ... وقد لاح مفتوق من الصّبح أشقر «4»
فلما رأت من قد تنوّر منهم ... وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
فقلت: أباديهم فإمّا أفوتهم ... وإمّا ينال السيف ثأرا فيثأر
فقالت: أتحقيقا لما قال كاشح ... علينا وتصديقا لما كان يؤثر
فإن كان ما لا بدّ منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقصّ على أختيّ بدء حديثنا ... ومالي من أن يعلما متأخّر
لعلّهما أن يبغيا لك مخرجا ... وأن يرحبا صدرا بما كنت أحصر
فقالت لأختيها أعينا على فتى ... أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا ... أقلّي عليك اللوم فالخطب أيسر
يقوم فيمشي بيننا متنكّرا ... فلا سرّنا يفشو ولا هو يبصر
فكان مجنّي دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر «5»
فلما أجزنا ساحة الحيّ قلن لي ... ألم تتّق الأعداء والليل مقمر
وقلن أهذا دأبك الدهر سادرا ... أما تستحي أم ترعوي أم تفكّر
ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة، اعترض الناس، فمرّ به رجل من أهل الشام معه ترس قبيح، فقال: يا أخا أهل الشام، مجنّ ابن أبي ربيعة كان أحسن من مجنّك هذا! يريد قول عمر ابن أبي ربيعة:
فكان مجنّي دون ما كنت أتّقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر
وقال أعرابيّ في النحول:
ولو أنّ ما أبقيت مني معلّق ... بعود ثمام ما تأوّد عودها «1»
وقال آخر:
إن تسألوني عن تباريح الهوى ... فأنا الهوى وأبو الهوى وأخوه «2»
فانظر إلى رجل أضرّ به الأسى ... لولا تقلّب طرفه دفنوه
وقال مجنون بني عامر في النحول:
ألا إنما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
وللحسن بن هانيء:
كما لا ينقضي الأرب ... كذا لا يفتر الطلب «3»
ولم يبق الهوى إلا ... أقلّي وهو محتسب
سوى أني إلى الحيوا ... ن بالحركات أنتسب
وقال آخر وهو خالد الكاتب:
هذا محبّك نضو لا حراك به ... لم يبق من جسمه إلا توهّمه «4»
ومن قولنا في هذا المعنى:
سبيل الحبّ أوّله اغترار ... وآخره هموم وادّكار «5»
وتلقى العاشقين لهم جسوم ... براها الشوق لو نفخوا لطاروا
ومثله من قولنا:
لم يبق من جثمانه ... إلا حشاشة مبتئس
قد رق حتى ما يرى ... بل ذاب حتى ما يحس
وقال الحسن بن هانيء في هذا المعنى، فأربى على الأوّلين والآخرين:
يا من تموت عمدا ... فكان للعين أملى
وفي الشّعوثة أربى ... فكان أشهى وأحلى
أردت أن تزدريك ... العيون هيهات كلّا
يا عاقد القلب مني ... هلّا تذكّرت خلّا
تركت مني قليلا ... من القليل أقلّا
يكاد لا يتجزّا ... أقلّ في اللفظ من لا
ولأبي العتاهية:
تلاعبت بي يا عتب ثم حملتني ... على مركب بين المنية والسّقم
ألا في سبيل الله جسمي وقوّتي ... ألا مسعد حتى أنوح على جسمي
وله:
لم تبق مني إلا القليل وما ... أحسبها تترك الذي بقيا












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید