المنشورات

ابن بكار ورجل بالثغر:

الزبير بن بكار قال: رأيت رجلا بالثغر «3» وعليه ذلة واستكانة وخضوع، وكان يكثر التنفس، ويخفي الشكوى، وحركات الحب لا تخفى؛ فسألته وقد خلوت به فقال وقد تحدّر دمعه:
أنا في أمري رشاد ... بين غزو وجهاد
بدني يغزو الأعادي ... والهوى يغزو فؤادي
يا عليما بالعباد ... ردّ إلفي ورقادي «4»
وقال أعرابيّ يصف البين:
أدمت أناملها عضّا على البين ... لمّا انثنت فرأتني دامع العين
وودّعتني إيماء وما نطقت ... إلا بسبّابة منها وعينين
وجدي كوجدك بل أضعافه فإذا ... عنّي تواريت قاب الرّمح واحيني «1»
وإن سمعت بموتي فاطلبي بدمي ... هواك والبين واستعدي على البين
وقال آخر:
مالت تودّعني والدّمع يغلبها ... كما يميل نسيم الرّيح بالغصن
ثمّ استمرّت وقالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي إيّاك لم تكن
وقال آخر:
أنين فاقد إلف أنّ في الغلس ... حتى تضايق منه مخرج النّفس
فكلّما أنّ من شوق أجال يدا ... على فؤاد له بالبين مختلس
وقال آخر:
أمبتكر للبين أم أنت رائح ... وقلبك ملهوف ودمعك سافح
الآن تبكي والنّوى مطمئنة ... فكيف إذا بارحت من لا تبارح
فإنك لم تبرح ولا شطّت النوى ... ولكنّ صبري عن فؤادي نازح «2»
وقال آخر:
إذا انفتحت قيود البين عنّي ... وقيل أتيح للنّائي سراح
أبت حلقاته إلّا انقفالا ... ويأتي الله والقدر المتاح
ومن لي بالبقاء وكلّ يوم ... لسهم البين في كبدي جراح
وقال محمد بن أبي أمية الكاتب:
يا غريبا يبكي لكلّ غريب ... لم يذق قبلها فراق حبيب
عزّه البين فاستراح إلى الدّم ... ع وفي الدمع راحة للقلوب
ختلته حوادث الدهر حتى ... أقصدته منها بسهم مصيب «3»
أيّ يوم أراك فيه كما كن ... ت قريبا فأشتكي من قريب
وقال أبو الطيامير:
أقول له يوم ودّعته ... وكلّ بعبرته مبلس «1»
لئن رجعت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس
وقال أبو العتاهية:
أبيت مسهّدا قلقا وسادي ... أروّح بالدموع عن الفؤاد
فراقك كان آخر عهد نومي ... وأوّل عهد عيني بالسّهاد
فلم أر مثل ما سلبته نفسي ... وما رجعت به من سوء زاد
وقال محمد بن يزيد التّستري:
رفعت جانبا إليك من الكلّ ... ة قابلته طرفا كحيلا «2»
نظرت نظرة الصّبابة لا تم ... لك للبين دمعها أن يجولا
ثم ولّت وقد تغير ذاك الصّ ... بح من خدّها فعاد أصيلا
وقال يزيد بن عثمان:
دمعة كالّلؤلؤ الرّط ... ب على الخدّ الأسيل «3»
وجفون تنفث السّح ... ر من الطّرف الكحيل
إنما يفتضح العا ... شق في يوم الرحيل
وقال علي بن الجهم:
يا وحشتا للغريب في البلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا
يقول في نأيه وغربته ... عدل من الله كلّ ما صنعا
وقال آخر:
بانوا وأضحى الجسم من بعدهم ... ما تبصر العين له فيّا «1»
يا أسفي منهم ومن قولهم ... ما ضرّك الفقد لنا شيّا
بأيّ وجه أتلقّاهم ... إن وجدوني بعدهم حيّا
وقال آخر:
اترحل عن حبيبك ثم تبكي ... عليه، فمن دعاك إلى الفراق؟
وقال هدبة العذري:
ألا ليت الرياح مسخّرات ... بحاجتنا تباكر أو تئوب
فتخبرنا الشّمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنّا الجنوب «2»
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب «3»
فيأمن خائف ويفكّ عان ... ويأتي أهله النّائي الغريب
وقال آخر:
لا بارك الله في الفراق ولا ... بارك في الهجر ما أمرّهما
لو ذبح الهجر والفراق كما ... يذبح ظبي لما رحمتهما
شربت كأس الفراق مترعة ... فطار عن مقلتيّ نومهما «4»
يا سيّدي والذي أؤمّله ... ناشدتك الله أن تذوقهما
وقال حبيب الطائي:
الموت عندي والفرا ... ق كلاهما ما لا يطاق
يتعاونان على النفو ... س فذا الحمام وذا السّياق «5»
لو لم يكن هذا كذا ... ما قيل موت أو فراق
وقال آخر:
شتان ما قبلة التّلاق ... وقبلة ساعة الفراق
هذي حياة وتلك موت ... بينهما راحة العناق
وقال سعيد بن حميد:
موقف البين مأتم العاشقينا ... لا ترى العين فيه إلّا حزينا
إنّ في البين فرحتين: فأمّا ... فرحتي بالوداع للظّاعنينا ...
فاعتناق لمن أحبّ وتقبيل ... ولمس بحضرة الكاشحينا «1»
ثم لي فرحة إذا قدم النّا ... س لتسليمهم على القادمينا!
وقال أعرابي:
ليل الشّجيّ على الخليّ قصير ... وبلا المحبّ على المحبّ يسير
بان الذين أحبّهم فتحمّلوا ... وفراق من تهوى عليك عسير
فلأبعثنّ نياحة لفراقهم ... فيها تلطّم أوجه وصدور
ولألبسنّ مدارعا مسودة ... لبس الثّواكل إذ دهاك مسير «2»
ولأذكرنّك بعد موتي خاليا ... في القبر عند منكر ونكير «3»
ولأطلبنّك في القيامة جاهدا ... بين الخلائق والعباد نشور «4»
فبجنّة إن صرت صرت بجنة ... ولئن حواك سعيرها فسعير
والمستهام بكلّ ذاك جدير ... والذّنب يغفر والإله شكور
ومن قولنا في البين:
هيّج البين دواعي سقمي ... كسا جسمي ثوب الألم
أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حلّ دمي «1»
يا خليّ الرّوع نم في غبطة ... إنّ من فارقته لم ينم!
ولقد هاج لقلبي سقما ... ذكر من لو شاء داوى سقمي
ومن قولنا في المعنى:
ودّعتني بزفرة واعتناق ... ثم نادت: متى يكون التلاق؟
وتصدّت فأشرق الصّبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق «2»
يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشّاق
إنّ يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني متّ قبل يوم الفراق
ومن قولنا فيه:
فررت من الّلقاء إلى الفراق ... فحسبي ما لقيت وما ألاقي
سقاني البين كأس الموت صرفا ... وما ظني أموت بكفّ ساقي
فيا برد اللقاء إلى فؤادي ... أجرني اليوم من حرّ الفراق
وقال مجنون بني عامر.
وإني لمفن دمع عيني من البكا ... حذارا لأمر لم يكن وهو كائن
وقالوا: غدا او بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيّتي ... بكفّيّ إلّا أنّ ما حان حائن
وقال أبو هشام الباهلي
خليلي غدا لا شكّ فيه مودّع ... فوالله ما أدري غدا كيف أصنع
فواحزنا إن لم أودّعه غدوة ... ويا أسفا إن كنت فيمن يودّع «3»
فإن لم أودّعه غدا متّ بعده ... سريعا وإن ودّعت فالموت أسرع
أنا اليوم أبكيه فكيف به غدا ... أنا في غد والله أبكي وأجزع
لقد سخنت عيني وجلّت مصيبتي ... غداة غد إن كان ما أتوقّع «1»
فيا يوم لا أدبرت! هل لك محبس؟ ... ويا غد لا أقبلت! هل لك مدفع
وقال بشار بن برد:
نبت عيني عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها عنها قصار
أقول وليلتي تزداد طولا ... أما للّيل بعدكم نهار
وقال المعتصم لما دخل مصر وذكر جارية له:
غريب في قرى مصر ... يقاسي الهمّ والسّقما
لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما
وقال آخر:
وداعك مثل وداع الربيع ... وفقدك مثل افتقاد الدّيم «2»
عليك سلام فكم من ندى ... فقدناه منك وكم من كرم










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید