المنشورات

اختلاف الناس في الغناء

اختلف الناس في الغناء، فاجازه عامة اهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق.
رأي من اجازه
فمن حجّة من اجازه أن أصله الشعر الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلم به، وحضّ عليه، وندب اصحابه اليه، وتجند به على المشركين؛ فقال لحسان: شنّ الغارة على بني عبد مناف، فو الله لشعرك أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام. و [الشعر] هو ديوان العرب ومقيّد احكامها الشاهد على مكارمها؛ وأكثر شعر حسان بن ثابت يغنى به.
حسان وابنه
قال فرج بن سلام: حدثني الرياشي عن الاصمعي قال: شهد حسان بن ثابت مأدبة لرجل من الأنصار وقد كفّ بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكلما قدّم شيء من الطعام قال حسان لابنه عبد الرحمن: أطعام يد أم طعام يدين؟ فيقول له طعام يد.
حتّى قدّم الشّواء، فقال له: هذا طعام يدين. فقبض الشيخ يده؛ فلما رفع الطعام اندفعت قينة تغني لهم بشعر حسان:
انظر خليلي بباب جلّق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد «1»
جمال شعثاء إذا هبطن من ال ... منحشّ دون الكثبان فالسّند «2»
قال: فجعل حسان يبكي، وجعل عبد الرحمن يوميء إلى القينة أن ترددّه! قال الاصمعي: فلا أدري ما الذي اعجب عبد الرحمن من بكاء ابيه!.
لعائشة
وقالت عائشة رضي الله عنها: علّموا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.
النبي صلّى الله عليه وسلم والشريد وأردف النبي صلّى الله عليه وسلم الشريد، فاستنشده من شعر امية، فأنشده مائة قافية، وهو يقول: هيه! استحسانا لها.
فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه، قالوا: الشعر حسن ولا نرى ان يؤخذ بلحن حسن؛ وأجازوا ذلك في القرآن وفي الاذان؛ فإن كانت الالحان مكروهة فالقرآن والاذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة، فالشعر احوج إليها لإقامة الوزن واخراجه على حدّ الخبر؛ وما الفرق بين أن ينشد الرجل:
أتعرف رسما كاطّراد المذانب
مرسلا، أو يرفع بها صوته مرتجلا.
وإنما جعلت العرب الشعر موزونا لمدّ الصوت فيه والدندنة؛ ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.
النبي صلّى الله عليه وسلم واحتجوا في اباحة الغناء واستحسانه بقول النبي صلّى الله عليه وسلم لعائشة: اهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم. قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا. قال: أو ما علمت ان الانصار قوم يعجبهم الغزل، ألا بعثتم معها من يقول؟
أتيناكم أتيناكم ... فحيّونا نحيّيكم
ولولا الحبّة السمرا ... ءلم نحلل بواديكم
واحتجوا بحديث عبد الله بن أنس ابن عم مالك، وكان من أفضل رجال الزهري، قال: مر النبي صلّى الله عليه وسلم بجارية في ظل فارع «1» وهي تغني:
هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج!
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا حرج إن شاء الله.
والذي لا ينكره اكثر الناس، غناء النصب، وهو غناء الركبان.
عمر بن الخطاب
حدّث عبد الله بن المبارك عن اسامة بن زيد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن أبيه، قال: مر بنا عمر بن الخطاب وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا عليّ. فأعدنا عليه، فقال: أنتما كحماري العباديّ، قيل له: أي حماريك شرّ؟ قال: ذا، ثم ذا!.
أنس بن مالك وسمع أنس بن مالك أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا؟ قال: أبيات عربية أنصبها نصبا.
ابن أبي وقاص
ومن حديث الجماني عن حماد بن زيد عن سليمان بن يسار، قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في منزل بين مكة والمدينة قد ألقي له مصلّى فاستلقى عليه ووضع إحدى رجليه على الاخرى وهو يتغنى، فقلت: سبحان الله أبا إسحاق! أتفعل مثل هذا وأنت محرم؟ فقال: يا بن أخي، وهل تسمعني أقول هجرا «1» .
عمرو النابغة الجعدي
ومن حديث المفضل عن قرّة بن خالد بن عبد الله بن يحيى، قال: قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك. فاسمعه كلمة له. قال: وإنك لقائلها؟ قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.
ابن جريج وعطاء
عاصم عن جريج، قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على الحان الغناء والحداء، قال: وما بأس ذلك يابن أخي!.
داود عليه السلام
قال، وحدّث عبيد بن عمير الليثي، أنّ داود النبي عليه السلام، كانت له معزفة يضرب بها إذا قرأ الزبور لتجتمع عليه الجنّ والإنس والطير، فيبكي ويبكي من حوله؛ وأهل الكتاب يجدون هذا في كتبهم.
رأي من كرهه
ومن حجة من كره الغناء أن قال: إنه يسعر القلوب، ويستفز العقول، ويستخف الحليم، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهو باطل في أصله. وتأولوا في ذلك قول الله عزّ وجلّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَيَتَّخِذَها هُزُواً
«1» ، وأخطئوا في التأويل؛ إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السّير والاحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن ويقولون إنها أفضل منه؛ وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا؛ وأعدل الوجوه في هذا أن يكون سبيله سبيل الشعر، فحسنه حسن وقبيحه قبيح.
ابن جامع وسفيان
وقد حدّث ابراهيم بن المنذر الخزاعي أنّ ابن جامع السهمي قدم مكة بمال كثير، ففرّقه في ضعفاء أهلها؛ فقال سفيان بن عيينة: بلغني أنّ هذا السهمي قدم بمال كثير.
قالوا: نعم. قال: فعلام يعطى؟ قالوا: يغني الملوك فيعطونه. قال: وبأي شيء يغنيهم؟ قالوا: بالشعر. قال: فكيف يقول؟ فقال له فتى من تلاميذه: يقول:
أطوّف بالبيت مع من يطوف ... وأرفع من مئزري المسبل
قال: بارك الله عليه، ما أحسن ما قال! قال: ثم ماذا؟ قال:
وأسجد بالليل حتى الصباح ... وأتلوا من المحكم المنزل
قال: وأحسن أيضا، أحسن الله إليه، ثم ماذا؟ قال:
عسى فارج الهمّ عن يوسف ... يسخّر لي ربّة المحمل
قال: أمسك! أمسك! أفسد آخرا ما أصلح أوّلا! ألا ترى سفيان بن عيينة رحمه الله حسّن الحسن من قوله وقبّح القبيح؟.
وكره الغناء قوم على طريق الزهد في الدنيا ولذاتها، كما كره بعضهم الملاذّ ولبس العباءة، وكره الحوّاريّ «1» ، وأكل الكشكار، وترك البرّ وأكل الشعير، لا على طريق التحريم، فإنّ ذلك وجه حسن ومذهب جميل؛ فإنما الحلال ما أحل الله والحرام ما حرّم الله. يقول الله تعالى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ
«2» .
وقد يكون الرجل أيضا جاهلا بالغناء او متجاهلا به، فلا يأمر به ولا ينكره.
للحسن البصري
قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ قال: نعم العون الغناء على طاعة الله، يصل الرجل به رحمه، ويواسي به صديقه. قال الرجل: ليس عن هذا أسألك. قال: وعمّ سألتني؟ قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه وينفخ منخريه؛ قال الحسن: والله يابن أخي ما ظننت أنّ عاقلا يفعل هذا بنفسه أبدا! وإنّما أنكر عليه الحسن تشويه وجهه وتعويج فمه؛ وإن كان أنكر الغناء فإنما هو من طريق أهل العراق، وقد ذكرنا أنهم يكرهونه.
لابن جريج وابن عبيد
قال إسحاق بن عمارة: حدثني ابو المغلس عن أبي الحارث، قال: اختلف في الغناء عند محمد بن ابراهيم والي مكة، فأرسل إلى ابن جريح وإلى عمرو بن عبيد، فأتياه، فسألهما، فقال ابن جريج: لا بأس به، شهدت عطاء بن أبي رباح في ختان ولده وعنده ابن سريج المغني، فكان إذا غنى لم يقل له اسكت، وإذا سكت لم يقل له غنّ، وإذا لحن ردّ عليه. وقال عمرو بن عبيد: أليس الله يقول ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
«1» ، فأيهما يكتب الغناء، الذي عن اليمين أو الذي عن الشمال؟ فقال ابن جريج: لا يكتبه واحد منهما؛ لانه لغو كحديث الناس فيما بينهم من أخبار جاهليتهم وتناشد أشعارهم.
لابي يوسف
قال اسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزمري قال: قال أبو يوسف القاضي: ما أعجب امركم يأهل المدينة في هذه الاغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها! قال: فغضبت وقلت: قاتلكم الله يأهل العراق! ما أوضح جهلكم وأبعد من السداد رأيكم! متى رأيت أحدا سمع الغناء فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف «2» المحصنة من جاراته، ويكفر بربه؛ فأين هذا من هذا؟ من اختار شعرا جيدا ثم اختار جرما حسنا فردّده عليه فأطربه وأبهجه فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب ... ؟ فقال أبو يوسف: قطعتني! ولم يحر جوابا.
الرشيد والزهري
قال إسحاق: وحدّثني ابراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي الرشيد: من بالمدينة ممن يحرّم الغناء؟ قال: قلت: من قنّعه الله بخزيه، قال: بلغني أنّ مالك بن أنس يحرّمه. قلت: يا أمير المؤمنين، أو لمالك أن يحرّم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمّك محمد صلّى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه، فمن جعل هذا لمالك؟ فشهادتي على أبي أنه سمع مالكا في عرس ابن حنظلة الغسيل يتغنى:
سليمى أزمعت بينا ... فأين بوصلها أينا
ولو سمعت مالكا يحرّمه ويدي تناله لا حسنت أدبه! قال: فتبسم الرشيد.
ابن عمر وابن جعفر
وعن أبي شعيب الحراني عن جعفر بن صالح بن كيسان عن أبيه، قال: كان عبد الله بن عمر يحب عبد الله بن جعفر، فغدا عليه يوما وعنده جارية في حجرها عود، فقال ابن عمر: ما ذاك يا أبا محمد؟.
قال: وما تظن به يا أبا عبد الرحمن؟ فإن أصاب ظنّك فلك الجارية.
قال: ما أراني إلا قد أخذتها، هذا ميزان رومي!.
فضحك ابن جعفر وقال: صدقت، هذا ميزان يوزن به الكلام، والجارية لك؛ ثم قال: هات فغنّت:
أيا شوقا إلى البلد الامين ... وحي بين زمزم والحجون
ثم قال: هل ترى بأسا؟ قال: هل غير هذا؟ قال: لا. قال: فما أرى بذا بأسا.
ابن عمر وابن محرز
وسمع عبد الله بن عمر ابن محرز يغني:
لو بدّلت أعلى منازلها ... سفلا وأصبح سفلها يعلو
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
فقال له عبد الله بن عمر: قل: إن شاء الله! قال: يفسد المعنى. قال: لا خير في معنى يفسده «إن شاء الله» .
عمر بن عبد العزيز ومغن
حدث محمد بن زكريا الغلابي بالبصرة قال: حدثني ابن الشرفي عن الاصمعي قال سمع عمر بن عبد العزيز راكبا يغني في سفره:
فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهنّ سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد «1»
وكرّي إذا نادى المضاف محنّبا ... كسيد الغضا في الطخية المتورّد «2»
وتقصير يوم الدّجن والدّجن معجب ... ببهكنة تحت الطّراف الممدّد «3»
فقال عمر بن عبد العزيز: وأنا لولا ثلاث لم أحفل متى قام عوّدي: لولا أن أنفر في السرية، وأقسم بالسوية، وأعدل في القضية!.
جرير والاسلمي العابد
قال جرير المدني: مررت بالأسلمي العابد وهو في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فسلمت عليه، فأومأ إليّ وأشار بالجلوس، فجلست، فلما سلم أخذ بيدي وأشار إلى حلقي، وقال: كيف هو؟ قلت: أحسن ما كان قط. قال: أما والله لوددت أنه خلا لي وجهك وأنك أسمعتني:
يا لقومي بحبلك المصروم ... يوم شطّوا وأنت غير ملوم
أصبح الرّبع من أمامة قفرا ... غير مغنى معازف ورسوم
قلت: إذا شئت، قال: في غير هذا الوقت إن شاء الله.
ابن المبارك
وحدث ابو عبد الله المروزي بمكة في المسجد الحرام، قال: حدثنا حسان وسويد صاحبا ابن المبارك، قالا: لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطا خرجنا معه، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا في كل يوم، التفت إلينا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر، وتركنا ههنا أبواب الجنة مفتوحة! قال: فبينما هو يمشي ونحن معه في أزقة المصيصة، إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني:
أذلني الهوى فأنا الذّليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل
فأخرج برنامجا من كمه، فكتب البيت؛ فقلنا له: أتكتب بيت شعر سمعته من سكران؟ قال: أما سمعتم المثل: ربّ جوهرة في مزبلة!.
الاوقص المخزومي
قال: وولي الأوقص المخزومي قضاء مكة، فما رؤي مثله في العفاف والنبل، فبينما هو نائم ذات ليلة في علّية له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن في غنائه، فأشرف المخزومي عليه، فقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ: خذه عني! فأصلحه عليه!.
وقال الاوقص المخزومي: قالت لي أمي: أي بنيّ، إنّك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان، فعليك بالدين، فإن الله يرفع به الخسيسة ويتمّ به النقيصة، فنفعني الله بقولها.
الشعبي وبشر
وحدث عباس بن المفضل قاضي المدينة، قال: حدثني الزبير بن بكار قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لاخيه عبد الملك بن مروان، وعنده جارية في حجرها عود؛ فلما دخل الشعبي امرها فوضعت العود، فقال له الشعبي: لا ينبغي للامير ان يستحي من عبده. قال: صدقتم:
ثم قال للجارية: هاتي ما عندك. فأخذت العود وغنت:
ومما شجاني أنها يوم ودّعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إليّ التفاتا أسلمته المحاجر
فقال الشعبي: الصغير أكيسهما «1» . يريد الزير، ثم قال: يا هذه، أرخي من يمّك، وشدّي من زيرك «2» . فقال له بشر: وما علمك؟ قال: أظن العمل فيهما. قال:
صدقت، ومن لم ينفعه ظنّه لم ينفعه يقينه.
قرشي ورجل يغني في المسجد
وحدث عن أبي عبد الله البصري قال: غنّى رجل في المسجد الحرام وهو مستلق على قفاه صوتا، ورجل من قريش يصلي في جواره؛ فسمعه خدّام المسجد فقالوا: يا عدو الله، تغني في المسجد الحرام! ورفعوه إلى صاحب الشرطة، فتجوز القرشي في صلاته؛ ثم سلم واتبعه، فقال لصاحب الشرطة: كذبوا عليه أصلحك الله، إنّما كان يقرأ! فقال يا فساق، أتأتوني برجل قرأ القرآن تزعمون انه غنّى خلوا سبيله! فلما خلّوه قال له القرشي: والله لولا انك أحسنت وأجدت ما شهدت لك، اذهب راشدا.
أبو حنيفة وجار له
وكان لابي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب، وكان أبو حنيفة يحيي الليل بالقيام، ويحييه جاره الكيال بالشراب، ويغني على شرابه:
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فأخذه العسس «3» ليلة فوقع في الحبس، وفقد أبو حنيفة صوته واستوحش له؛ فقال لاهله: ما فعل جارنا الكيال؟ قالوا: أخذه العسس فهو في الحبس. فلما اصبح ابو حنيفة وضع الطويلة على رأسه، وخرج حتى أتى باب عيسى بن موسى، فاستأذن عليه، فأسرع في إذنه- وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي الملوك- فأقبل عليه عيسى بوجهه، وقال: أمر ما جاء بك أبا حنيفة! قال: نعم، أصلح الله الامير، جار لي من الكيالين، أخذه عسس الامير ليلة كذا، فوقع في حبسك. فأمر عيسى باطلاق كل من أخذ في تلك الليلة، إكراما لابي حنيفة؛ فأقبل الكيال على أبي حنيفة متشكرا له، فلما رآه أبو حنيفة قال: أضعناك يا فتى؟ يعرّض له بقصيدته؛ قال: لا والله، ولكنك بررت وحفظت.
الدارمي وتاجر عراقي
: الاصمعي قال: قدم عراقي بعدل «1» من خمر العراق الى المدينة، فباعها كلها إلا السود، فشكا ذلك الى الدارمي، وكان قد تنسك وترك الشعر ولزم المسجد فقال: ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلّها على حكمك؟ قال: ما شئت!! قال: فعمد الدارمي إلى ثياب نسكه! فألقاها عنه وعاد إلى مثل شأنه الاول، وقال شعرا ورفعه إلى صديق له من المغنين، فغنى به وكان الشعر:
قل للمليحة في الخمار الاسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبّد «2»
قد كان شمّر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد
ردّي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحقّ دين محمد
فشاع هذا الغناء في المدينة: وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الاسود. فلم تبق مليحة بالمدينة الا اشترت خمارا اسود، وباع التاجر جميع ما كان معه؛ فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي فيقولون: ماذا صنعت؟
فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين. فلما أنفذ العراقي ما كان معه، رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه.
عروة بن أذينة
: وحدث عبد الله بن مسلم بن قتيبة ببغداد، قال: حدثني سهل عن الأصمعي قال:
كان عروة بن أذينة يعدّ ثقة ثبتا في الحديث، روى عنه مالك بن أنس؛ وكان شاعرا لبقا في شعره غزلا، وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين؛ فمن ذلك قوله، وغنى به الحجازيون:
يا ديار الحيّ بالأجمه ... لم يبيّن رسمها كلمه
وهو موضع صوته، ومنه قوله:
قالت وأبثثتها وجدي وبحت به ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطّي هواك وما ألقي على بصري
قال: فوقفت عليه امرأة وحوله التلامذة، فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، وأنت القائل:
إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد
لا والله ما قال هذا رجل صالح قط!
القس
: قال: وكان عبد الرحمن الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة، وإنه مر يوما بسلامة وهي تغني، فقام يستمع غناءها، فرآه مولاها فقال له:
هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى، فلم يزل به حتى دخل، فقال له: أوقفك في موضع بحيث تراها ولا تراك. فغنّته فأعجبته، فقال له مولاها: هل لك في أن أحوّلها إليك؟ فأبى ذلك عليه، فلم يزل به حتى أجابه، فلم يزل يسمعها ويلاحظها النظر حتى شغف بها؛ ولما شعرت لحظه إيّاها غنته:
ربّ رسولين لنا بلّغا ... رسالة من قبل أن يبرحا
لم يعملا خفّا ولا حافرا ... ولا لسانا بالهوى مفصحا
حتى استقلا بجوابيهما ... بالطائر الميمون قد أنجحا
الطرف والطّرف بعثناهما ... فقضيا حاجا وما صرّحا
قال: فأغمي عليه وكاد أن يهلك؛ فقالت له يوما: والله إنّي أحبّك! قال لها: وأنا والله أحبّك! قالت: وأحب أن أضع فمي ... قال: وأنا والله ... قالت: فما يمنعك من ذلك؟ قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك [اليوم] عداوة يوم القيامة؛ أما سمعت الله تعالى يقول: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
«1» ؟
ثم نهض وعاد إلى طريقه التي كان عليها، وأنشأ يقول:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فأعجب لما تأتي به الأيام «2»
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضلالة والهدى أقسام
وله فيه:
إن سلامة التي ... أفقدتني تجلّدي «3»
لو تراها وعودها ... حين يبدو وتبتدي
للجريرين والغري ... ض وللقرم معبد
خلتهم بين عودها ... والدّساتين واليد












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید