المنشورات

يزيد ومغنية

: حدث أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله المأمون في طريق الحج من العراق إلى مكة، قال: حدثني أبي، قال: كانت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأفضلهم أدبا، قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية؛ فوقعت عند يزيد بن عبد الملك، فأخذت بمجامع قلبه، فقال لها ذات يوم: ويحك! أما لك قرابة أو أحد يحسن أن أصطنعه أو أسدي إليه معروفا؟ قالت: يا أمير المؤمنين، أما قرابة فلا، ولكنّ بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاتي، كنت أحبّ أن ينالهم من خير ما صرت إليه! فكتب إلى عامله بالمدينة في أشخاصهم، وأن يعطي كل رجل منهم عشرة آلاف درهم، وأن يعجل بسراحهم إليه؛ ففعل عامل المدينة ذلك؛ فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم، فأذن لهم وأكرمهم وسألهم [عن] حوائجهم؛ فأما الاثنان فذكرا حوائجهما فقضاها لهما وأما الثالث فسأله عن حاجته؛ فقال: يا أمير المؤمنين، مالي حاجة! قال: ويحك! ولم؟ ألست أقدر على حوائجك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن حاجتي لا أحسبك تقضيها! قال: ويحك! فسلني، فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها. قال: ولي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم وكرامة، قال: إن رأيت أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا لها أن تغنّيني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال، فافعل، قال: فتغير وجه يزيد. وقام من مجلسه، فدخل على الجارية فأعلمها؛ قالت: وما عليك يا أمير المؤمنين؟ أفعل ذلك. فلما كان من الغد أمر بالفتى فأحضر، وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فألقيت؛ فقعد يزيد على أحدها، وقعدت الجارية على الآخر، وقعد الفتى على الثالث؛ ثم دعا بطعام فتغدّوا جميعا، ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت؛ ثم قال للفتى: قل ما بدا لك وسل حاجتك. قال: تأمرها تغني:
لا أستطيع سلّوا عن مودّتها ... أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
فامرها فغنّت، فشرب يزيد وشرب الفتى، ثم شربت الجارية؛ ثم أمر بالأرطال فملئت، ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: تأمرها تغني:
تخيّرت من نعمان عود أراكة ... لهند، ولكن من يبلّغه هندا؟
ألا عرّجا بي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
قال: فغنت بهما، وشرب يزيد ثم الفتى ثم الجارية؛ ثم أمر بالأرطال فملئت؛ ثم قال للفتى: سل حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين مرها تغني:
منّا الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرّق بيننا الدهر
والله ما أسلوكم أبدا ... ما لاح نجم أو بدا فجر
قال: فلم تأت على آخر الأبيات حتى خرّ الفتى مغشيا عليه؛ فقال يزيد للجارية:
انظري ما حاله! فقامت إليه فحرّكته، فإذا هو ميت! فقال لها: ابكيه! قالت لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حيّ! قال لها: ابكية، فو الله لو عاش ما انصرف إلا بك! فبكته، وأمر بالفتى فأحسن جهازه ودفنه.













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید