المنشورات

عبد الملك وابن جعفر في الغناء

: قال: وحدّث أبو يوسف بالمدينة قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر الجذامي عن أبيه، أنّ عبد الله بن جعفر وفد على عبد الملك بن مروان، فأقام عنده حينا؛ فبينا هو ذات ليلة في سمره، إذ تذاكروا الغناء؛ فقال عبد الملك: قبح الله الغناء! ما أوضعه للمروءة، وأجرحه للعرض، وأهدمه للشّرف، وأذهبه للبهاء! وعبد الله ساكت، وإنما عرّض بعبد الله، وأعانه عليه من حضر من أصحابه- فقال عبد الملك: مالك أبا جعفر لا تتكلم؟ قال: ما أقول ولحمي يتمزع وعرضي يتمزق؟ قال: أما إني نبّئت أنك تغني! قال: أجل يا أمير المؤمنين، قال: أفّ لك وتفّ! قال: لا أفّ ولا تفّ، فقد تأتي أنت بما هو أعظم من ذلك، قال: وما هو؟ قال: يأتيك الأعرابي الجافي، يقول الزّور؛ ويقذف المحصنات؛ فتأمر له بألف دينار، وأشتري أنا الجارية الحسناء من مالي، فأختار لها من الشعر أجوده، ومن الكلام أحسنه، ثم تردّده عليّ بصوت حسن؛ فهل بذلك بأس؟ قال: لا بأس، ولكن أخبرني عن هذه الأغاني ما تصنع؟
قال: نعم، اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة، فكان بديح وطويس يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما، فعلقت منهما حتى غلبت عليهما؛ فوصفت ليزيد بن معاوية، فكتب إليّ: إمّا أهديتها إليّ، وإمّا بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة! فبذل لي فيها ما كنت أحسب أنّ نفسه لا تسخو به، فأبيت عليه.
فبينما هي عندي على تلك الحال، إذ ذكرت لي عجوز من عجائزنا أنّ فتى من أهل المدينة سمع غناءها فعلقها وشغف بها، وأنه يجيء في كل ليلة مستترا يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف؛ فراعيت مجيئه، فإذا الفتى قد أقبل مقنّع الرأس، فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا، فلم أدع بها تلك الليلة، وجعلت أتأمّل موضعه، فبات مكانه الذي هو فيه؛ فلما انشق الفجر اطلعت عليه، فإذا هو في موضعه، فدعوت قيّمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزيّني هذه الجارية وأعجلي بها إليّ. فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحرّكته، فانتبه مذعورا؛ فقلت له: لا بأس عليك! خذ بيد هذه الجارية فهي لك، وإن هممت ببيعها فردّها إليّ! فدهش وأخذه الخبل ولبط به «1» ؛ فدنوت من أذنه! فقلت: ويحك! قد أظفرك ببغيتك، فقم فانطلق بها إلى منزلك! فإذا الفتى قد فارق الدنيا، فلم أر شيئا قط أعجب منه! قال عبد الملك: وأنا والله ما سمعت شيئا قط أعجب من هذا ولولا أنك عاينته ما صدّقت به؛ فما صنعت بالجارية؟ قال: تركتها عندي، وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكانا من قلبي، وكرهت أن أوجّه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد عليّ، فما زالت تلك حالها حتى ماتت!











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید