المنشورات

خبر الذلفاء

قال أبو سويد: حدثني أبو زيد الاسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك بن مروان، وهو جالس على دكان مبلط بالرخام الاحمر، مفروش بالديباج «1» الأخضر، في وسط بستان ملتف، قد أثمر وأينع؛ واذا بإزاء كل شقّ من البستان ميدان ينبت الربيع قد ازهر وعلى رأسه وصائف. كلّ واحدة منهن احسن من صاحبتها؛ وقد غابت الشمس، فنضرت الخضرة، وأضعفت في حسنها الزهرة، وغنّت الاطيار فتجاوبت، وسفت الرياح على الاشجار فتمايلت؛ [وقد حلي البستان] بأنهار فيه قد شقّقت، ومياه قد تدفقت: فقلت: السلام عليك أيها الامير ورحمة الله وبركاته.
وكان مطرقا، فرفع رأسه وقال: أبا زيد! في مثل هذا الحين يصاب احد حيا؟
قلت: أصلح الله الامير، أو قد قامت القيامة بعد!.
قال: نعم، على أهل المحبة سرا والمراسلة بينهم خفية.
ثم أطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، ما يطيب في يومنا هذا؟.
قلت: أعز الله الامير، قهوة صفراء، في زجاجة بيضاء، تناولها مقدودة هيفاء، مضمومة لفّاء [مكحولة] دعجاء، أشربها من كفها، وأمسح فمي بفمها!.
فأطرق سليمان مليا لا يحير جوابا، ينحدر من عينه عبرات بلا شهيق؛ فلما رأت الوصائف ذلك ننحين عنه؛ ثم رفع رأسه فقال: أبا زيد، حللت في يوم فيه انقضاء اجلك ومنتهى مدتك وتصرّم عمرك! والله لاضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك.
قلت: نعم أصلح الله الامير؛ كنت جالسا عند باب اخيك سعيد بن عبد الملك، فإذا انا بجارية قد خرجت إلى باب القصر كالغزال انفلت من شبكة الصياد؛ عليها قميص اسكندراني يتبين منه بياض بدنها، وتدوير سرّتها، ونقش تكتها؛ وفي رجليها نعلان حمراوان، وقد أشرق بياض قدمها على حمرة نعليها؛ مضمومة بفرد ذؤابة تضرب الى حقويها وتسيل كالعثاكيل «1» على منكبيها، وطرّة «2» قد أسبلت على مثنى جبينها، وصدغان قد زينا كأنهما نونان على وجنتيها، وحاجبان قد قوّسا على محجري عينيها، وعينان مملوءتان سحرا، وأنف كأنه قصبة درّ، وفم كأنه جرح يقطر دما؛ وهي تقول: عباد الله، من لي بدواء من لا يشتكي، وعلاج من لا ينتمي؟ طال الحجاب، وأيضا الجواب؛ فالفؤاد طائر، والقلب عازب، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس؛ رحمة الله على قوم عاشوا تجلّدا، وماتوا تبلّدا؛ ولو كان إلى الصبر حيلة وإلى العزاء سبيل لكان أمرا جميلا!.
ثم أطرقت طويلا، ثم رفعت رأسها؛ فقلت: أيتها الجارية، إنسية أنت أم جنيّة؟
سمائية أم أرضية؟ فقد اعجبني ذكاء عقلك؛ وأذهلني حسن منطقك!.
فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني، ثم قالت: اعذر أيها المتكلم الاريب، فما أوحش الساعة بلا مساعد، والمقاساة لصبّ معاند! ثم انصرفت؛ فو الله- أصلح الله الامير- ما أكلت طيبا إلا غصصت به لذكرها، ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها!.
قال سليمان: أبا زيد، كاد الجهل أن يستفزني، والصبا ان يعاودني، والحلم أن يعزب عني؛ لحسن ما رأيت، وشجو ما سمعت؛ تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذّلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان «1»
شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها، والله إني من لا يموت إلا بحزنها، ولا يدخل القبر إلا بغصّتها، وفي الصبر سلوة، وفي توقّع الموت نهية؛ قم أبا زيد فاكتم المفاوضة؛ يا غلام، ثقّله ببدرة. فأخذتها وانصرفت.
قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان، صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط «2» ، فأخرج على دهناء الغوطة، وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة، تحتها أنواع الزهر الغض، من بين أصفر فاقع، وأحمر ساطع، وأبيض ناصع؛ فهي كالثوب الحرمي وحواشي البرد الاتحميّ «3» يثير منها مرّ الرياح نسيما يربي على رائحة العنبر، وفتيت المسك الاذفر، وكان له مغن ونديم وسمير، يقال له سنان، به يأنس، وإليه يسكن، فأمره ان يضرب فسطاطه بالقرب منه، وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزّه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان، في اكمل سرور، وأتم حبور، إلى أن انصرف مع الليل الى فسطاطه، فنزل به جماعة من اخوانه، فقالوا له: قرانا أصلحك الله قال: وما قراكم؟ قالوا أكل وشرب وسمع.
قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه، إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك وإن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه. قالوا: غنّنا صوت كذا.
قال: فرفع عقيرته يتغنى بهذه الابيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... في آخر اليل لمّا ظلّها السحر
تثني على الخدّ منها من معصفرة ... والحلي باد على لبّاتها خضر «4»
في ليلة التّمّ لا يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
لم يحجب الصّوت أجراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصّوت منحدر
لو خلّيت لمشت نحوي على قدم ... يكاد من لينه للمشي ينفطر
فسمعت الذلفاء صوت سنان، فخرجت إلى وسط الفسطاط تستمع؛ فجعلت لا تسمع شيئا من [حسن] خلق ولطافة قدّ، إلا الذي وافق المعنى؛ ومن نعت الليل واستماع الصوت؛ إلا رأت ذلك كله في نفسها ومهبها، فحرك ذلك ساكنا في قلبها، فهملت «1» عيناها، وعلا نشيجبها «2» ، فانتبه سليمان فلم يجدها معه، فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال، فقال لها: ما هذا يا ذلفاء؟ فقالت:
ألا ربّ صوت رائع من مشوّة ... قبيح المحيّا واضع الأب والجدّ
يروعك منه صوته ولعلّه ... إلى أمة يعزى معا وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا فو الله لقد خامر قلبك منه خامر! يا غلام، عليّ بسنان. فدعت الذلفاء خادما لها فقالت: إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان، فحذّره ولك عشرة آلاف درهم وأنت حر لوجه الله تعالى! فخرج الرسول فسبق رسول سليمان؛ فلما أتي به قال: يا سنان، ألم أنهك عن مثل هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل وأنا عبد أمير المؤمنين وغذيّ نعمته؛ فإن رأى امير المؤمنين أن لا يضيع حظّه من عبده فليفعل. قال: أما حظي منك فلن أضيعه، ولكن ويلك! أما علمت أن الرجل إذا تغنى أصغت المرأة إليه، وأن الحصان إذا صهل ودقت له الفرس، وأن الفحل إذا هدر صغت له الناقة، وأن التيس إذا نبّ «3» استحرمت له الشاة؟ وإياك والعود إلى ما كان منك يطول غمّك.












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید