المنشورات

باب من الرقائق

وقد جبل أكثر الناس على سوء الاختيار، وقلة التحصيل والنظر مع لؤم الغرائز، وضعف الهمم. وقلّ من يختار من الصنائع أرفعها، ويطلب من العلوم أنفعها. ولذلك كان أثقل الأشياء عليهم وأبغضها إليهم مئونة التحفظ، وأخفها عندهم وأسهلها عليهم إسقاط المروءة.
وقيل لبعضهم: ما أحلى الأشياء كلها؟ قال الارتكاس «1» .
وقيل لعبد الله بن جعفر: ما أطيب العيش؟ قال: هتك الحياء واتباع الهوى.
وقيل لعمرو بن العاص: ما أطيب العيش؟ قال: ليقم من هنا من الأحداث قال:
فلما قاموا، قال: [أطيب] العيش كله إسقاط المروءة.
وأي شيء أثقل على النفس من مجاهدة الهوى ومكابدة الشهوة؟ ومن ذلك كان سوء الاختيار أغلب على طبائع من حسن الاختيار.
المبرد وكتابه الروضة
: ألا ترى أن محمد بن يزيد النحوي- على علمه باللغة ومعرفته باللسان- وضع كتابا سماه بالروضة، وقصد فيه إلى أخبار الشعراء المحدثين، فلم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، حتى انتهى إلى الحسن بن هانيء- وقلما يأتي له بيت ضعيف، لرقة فطنته، وسبوطة بنيته، وعذوبة ألفاظه- فاستخرج له من البرد أبياتا ما سمعناه ولا رويناها، ولا ندري من أين وقع عليها، وهي:
ألا لا يلمني في العقار «1» جليسي ... ولا يلحني في شربها بعنوس
تعشّقها قلبي فبغّض عشقها ... إليّ من الأشياء كلّ نفيس
وأين هذا الاختيار من اختيار عمرو بن بحر الجاحظ، حين اجتلب ذكره في كتاب الموالي، فقال: ومن الموالي الحسن بن هانيء، وهو من أقدر الناس على الشعر، وأطبعهم فيه؛ ومن قوله:
فجاء بها صفراء بكرا يزفّها ... إليّ عروسا ذات دلّ معتّق
فلما جلتها الكأس أبدت لناظري ... محاسن ليث بالجمال مطوّق
ومن قوله:
ساع بكأس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريك وشمل الليل مجتمع ... صبحا تولّد بين الماء والعنب
كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب
وجلّ أشعاره في الخمريات بديعة لا نظير لها، فخطرفها كلها وتخطاها إلى التي جانسته في برده، فما أحسبه لحقه هذا الاسم «المبرّد» إلا لبرده؛ وقد تخيّر لأبي العتاهية أشعارا تقتل من بردها، وشنّفها «2» وقرّطها «3» بكلامه، فقال: ومن شعر أبي العتاهية المستظرف عند الظرفاء، المتخير عند الخلفاء، قوله:
يا قرّة العين كيف أمسيت ... أعزز علينا بما تشكّيت
وقوله:
آه من وجدي وكربي ... آه من لوعة حبي»
ما أشدّ الحبّ يا سبحانك اللهمّ ربّي!
من سوء الاختيار
ونظير هذا من سوء الاختيار، ما تخيّره أهل الحذق بالغناء والصانعون للألحان من الشعر القديم والحديث؛ فإنهم تركوا منه الذي هو أرق من الماء، وأصفى من الهواء؛ وكلّ مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، وغنّوا بقول الشاعر:
فلا أنسى حياتي ما ... عبدت الله لي ربا
وقلت لها أنيليني ... فقالت تعرف الذّنبا! «1»
ولو تعلم ما بي لم ... تر الذنب ولا العتبا
وأقلّ ما كان يجب في هذا الشعر، أن يضرب قائله خمسمائة، وصانعه أربعمائة، والمغنّي به ثلاثمائة، والمصغي إليه مائتين! ومثله:
كأنها الشمس إذا ما بدت ... تلك التي قلبي لها يضرب
تلك سليماي إذا ما بدت ... ومن أنا في ودّها أرغب
كأنّ في النفس لها ساحرا ... ذاك الذي علمه المذهب
يعني المذهب الحبي ومثله:
يا خليلي، أنتما عللاني ... بين كرم مزهر وجنان
خبّراني أين حلت منايا ... يا عباد الله لا تكتماني
إنما حلت بواد خصيب ... ينبت الورس مع الزعفران «2»
حلفا بالله لو وجداني ... غرقا في البحر ما أنقذاني
ومثله:
أبصرت سلمى من منى ... يوما فراجعت الصّبا
يا درّة البحر متى ... تشهد سوقا يشترى
ومثله:
يا معشر الناس هذا ... أمر وربّي شديد
لا تعنفي يا فلانه ... فإنّني لا أريد
ومثله:
أرقت فأمسيت لا أرقد ... وقد شفني البيض والخوّد «1»
فصرت لظبي بني هاشم ... كأني مكتحل أرمد
أقلّب أمري لدى فكرتي ... وأهبط طورا فما أصعد
وأصعد طورا ولا علم لي ... على أنني قبلكم أرشد
ومثله:
ما أرجّي من حبيب ... ضنّ عني بالمداد «2»
لو بكفّيه سحاب ... ما ارتوت منه بلادي
أنا في واد ويمسي ... هو لي في غير واد
ليته إذ لم يجد لي ... بالهوى ردّ فؤادي
ومثله:
ما لسلمى تجنّبت ... ما لها اليوم ما لها
إن تكن قد تغضّبت ... أصلح الله حالها














مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید