المنشورات

البخلاء

بخل أهل مرو، ولأبن أشرس فيهم
: أجمع الناس على بخل أهل مرو، ثم أهل خراسان.
قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج ويثير الحب إليها ويلطف بها، إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده، فعلمت أن لؤمهم في المآكل.
ورأيت في مرو طفلا صغيرا في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة. فقال:
ليس تسع يدك! فعلمت أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب والجبلّة «1» المفطورة.
مروزي اشتكى سمالا
: واشتكى رجل مروزيّ ضررا من سعال؛ فدلّوه على سويق اللوز، فاستثقل النفقة ورأى الصبر على الوجع أخف عليه؛ فلم يزل يماطل الأيام ويدافع الأوقات حتى أتيح له بعض الموفقين، فدله على ماء النخالة، وقال له: إنه يجلو الصدر. فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب ماءها، فجلا صدره.
ووجده بعضهم، فلما حضر غداؤه أمر به فرفع إلى العشاء وقال لأم عياله اطبخي لأهل بيتنا النخالة، فإني وجدت ماءها يعصم ويجلي الصدر فقالت له زوجته: قد جمع الله لك في هذا الدواء دواء وغذاء!
لابن صبيح
: وقال خاقان بن صبيح: دخلت على رجل ليلا من أهل خراسان فإذا هو قد أتي بمسرجة فيها فتيل رقيق، وقد ألقى في دهن المسرجة شيئا من ملح، وقد علق فيها عودا بخيط معقود إلى المسرجة، فإذا غشا المصباح أخرج به رأس الفتيل؛ فقلت: ما بال هذا العود مربوطا؟ فقال: هذا عود قد شرب الدهن، فإذا لم نحفظه وضاع احتجنا إلى غيره فلا نجده إلا عطشان، فإذا كان هذا دأبنا ضاع من دهننا في الشهر بقدر كفايتنا ليلة.
قال: فبينا أنا أتعجب وأسأل الله العافية، إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو ونظر إلى العود فقال: أبا فلان، فررت من شيء ووقعت فيما هو شرّ منه؛ أما علمت أن الشمس والريح تأخذان من سائر الأشياء؟ أو ليس [قد] كان البارحة هذا العود عند إطفاء السراج أروى؛ وهو عند إسراجك الليلة أعطش؟ قد كنت أنا جاهلا مثلك زمانا، حتى وفقني الله إلى ما [هو] أرشد؛ اربط عافاك الله مكان العود إبرة كبيرة أو مسلة صغيرة؛ فإن الحديد أبقى، وهو مع ذلك غير نشاف؛ والعود والقصبة ربما تعلقت بهما العشرة من قطن الفتيلة فتشخص معها؛ وربما كان ذلك سببا لانطفائها! قال الخراساني: ألا وإنك لا تعلم أنك من المسرفين حتى تعمل بأعمال المصلحين.
للجزامي
: قال الأصمعي: قال لي أبو محمد الجزامي، واسمه عبد الله بن كاسب، ونحن في العسكر؛ إن للشيب سهكة «1» وبياض الشعر الأسود هو موته، كما أن سواده حياته، ألا ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت فيها إلا شعر أبيض، والناس لا يرضون منا في هذا العسكر إلا بالعناق والمشامّة والطيب غال ممتنع الجانب، فلست أرى شيئا هو أحسن بنا من اتخاذ مشط صندل؛ فإن ريحه طيّبة، والشعر سريع القبول [منه] ؛ وأقل ما تصنع أن ما ينفي سهك الشيب؛ حتى يكون حال لا لنا ولا علينا.
لابن أشرس
: وكان ثمامة بن أشرس يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، واعلموا أن أعدي عدوّ له المملوك، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل! وكان يقول: كلوا الباقلاء بقشره، فإن الباقلاة تقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته!
من بخل هشام بن عبد الملك
: ومن البخلاء هشام بن عبد الملك: قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام فأطرفته وحدثته، فقال: سل حاجتك. فقلت: يا أمير المؤمنين، تزيد في عطائي عشرة دنانير. فأطرق حينا وقال: فيم؟ ولم؟ وبم؟ ألعبادة أحدثتها أم لبلاء حسن أبليته في أمير المؤمنين؟ ألا لا يا ابن صفوان، ولو كان لكثر السؤال ولم يحتمله بيت المال! فقلت: وفقك الله يا أمير المؤمنين وسدّد؛ فأنت والله كما قال أخو خزاعة:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة قربى أو صديق توافقه
منعت وبعض المنع حزم وقوّة ... ولم يستلبك المال إلا حقائقه
قيل لخالد بن صفوان: ما حملك على تزيين البخل له؟ قال: أحببت أن يمنع غيري فيكثر من يلومه.
وخرج هشام بن عبد الملك متنزها ومعه الأبرش الكلبي، فمر براهب في دير، فعدل إليه، فأدخله الراهب بستانا له، وجعل يجتني له أطايب الفاكهة؛ فقال له هشام: يا راهب؛ بعني بستانك! فسكت عنه الراهب، ثم أعاد عليه، فسكت عنه؛ فقال له: مالك لا تجيبني؟ فقال: وددت أن الناس كلهم ماتوا غيرك! قال: لماذا ويحك؟ قال: لعلك أن تشبع! فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أما سمعت ما قال هذا؟ قال: والله إن لقيك حرّ غيره.
من بخل ابن الزبير
: ومن البخلاء عبد الله بن الزبير، وكانت تكفيه أكلة لأيام، ويقول: إنما بطني شبر في شبر، فما عسى أن تكفيه أكلة.
وقال فيه أبو وجرة مولى الزبير:
لو كان بطنك شبرا قد شبعت وقد ... أبقيت فضلا كبيرا للمساكين
فإن تصبك من الأيام جائحة ... لم نبك منك على دنيا ولا دين
ما زلت في سورة الأعراف تدرسها ... حتى فؤادي كمثل الخزّ في الّلين
إنّ امرأ كنت مولاه فضيّعني ... يرجو الفلاح لعبد عين مغبون
وابن الزبير هو الذي قال: أكلتم تمري وعصيتم أمري! فقال فيه الشاعر:
رأيت أبا بكر، وربّك غالب ... على أمره، يبغي الخلافة بالتّمر!
وأقبل إليه أعرابيّ فقال: أعطني وأقاتل عنك أهل الشام. فقال له: اذهب فقاتل، فإن أغنيت أعطيناك! قال: أراك تجعل روحي نقدا ودراهمك نسيئة! وأتاه أعرابي يسأله جملا، ويذكر أن ناقته نقبت «1» ؛ فقال؛ انعلها من النعال السبتية، واخصفها بهلب! قال له الأعرابي: إنما أتيتك مستوصلا ولم آتك مستوصفا؛ فلا حملت ناقة حملتني إليك! قال: إنّ وصاحبها.
من بخل ابن الجهم
: ومن رؤساء أهل البخل محمد بن الجهم، وهو الذي قال: وددت أن عشرة من الفقهاء، وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء- تواطئوا على ذمّي، واستهلوا بشتمي، حتى ينشر ذلك عنهم في الآفاق، حتى لا يمتدّ إليّ أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء راج.
وقال له أصحابه: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا! قال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام، هات الغداء.
وذكر ثمامة بن أشرس محمد بن الجهم فقال: لم يطمع أحد قط في ماله إلا شغله عن الطمع في غيره، ولا شفع في صديق، ولا تكلم في حاجة محرم، إلا ليلقن المسئول حجّة المنع، ويفتح على السائل باب الحرمان!
من بخل ابن أبي حفصة
: ومن البخلاء اللئام مروان بن أبي حفصة الشاعر؛ قال أبو عبيدة عن ابن الجهم قال: أتيت اليمامة فنزلت على مروان بن أبي حفصة، فقدّم إليّ تمرا، وأرسل غلامه بفلس وسكرّجة يشتري زيتا، فأتى الغلام بالزيت، فقال له: خنتني وسرقتني! قال:
وفيم كنت أخونك وأسرقك في فلس؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت.
من بخل الصيرفي
: ومن البخلاء: زبيدة بن حميد الصيرفي؛ استلف من بقال على بابه در همين وقيراطا، فمطله بها ستة أشهر، ثم قضاه در همين وثلاث حبات [شعير] ؛ فاغتاظ البقال وقال: سبحان الله! أنت صاحب مائة ألف دينار، وأنا يقال لا أملك مائة فلس، وإنما أعيش بكدي، واستقضي الحبة في بابك والحبتين؛ صاح على بابك حمال، [والمال لم يحضرك] ولا يحضر تلك الساعة وكيلك، فأعنتك وأسلفتك در همين وأربع شعيرات، فتقضيني بعد ستة أشهر در همين وثلاث شعيرات؟ فقال زبيدة: يا مجنون، أسلفتني في الصيف وقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية أوزن من أربع صيفية؛ لأن هذه ندية وتلك يابسة، وما أشك أن معك بعد هذا كله فضلا!
للأصمعي في بخيل
: قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف، فقال: الموت أو أشرب من لبنه! فأقبل مع صاحب له، حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن؛ فقال ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله ههنا. وكان قال لي: اسقني لبنا! قال صاحب اللبن: هذا هين موجود؛ ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه به فأسنده صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم تجشأ، فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه! ومن أمثال العرب في البخل قولهم: ما هو إلا أبنة «1» عصا أو عقدة رشاء «2» ؛ لأن عقدة الرّشاء المبلول لا تكاد تنحل.
قيل لمدنية: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يردّه! قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له! قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اتخاذ المنن في رقاب الرجال.
والعرب تقول لمن لم يظفر بحاجته وجاء خائبا: جاء فلان على غبيراء الظهر وجاء على حاجبه صوفة، وجاء بخفّي حنين.
وقال أبو عطاء السندي، في يزيد بن عمرة بن هبيرة:
ثلاث حكتهنّ لفرم قيس ... طلبت بها الأخوة والسّناء
رجعن على حواجبهنّ صوف ... وعند الله أحتسب الجزاء













مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید