المنشورات

طعام البخلاء

لمروزي وزواره
قال الأصمعي: كان المروزيّ يقول لزوّاره إذا أتوه: هل تغدّيتم اليوم؟ فإن قالوا: نعم. قال: والله لولا انكم تغديتم لاطعمتكم لونا ما أكلتم مثله، ولكن ذهب اول الطعام بشهوتكم! وإن قالوا: لا. قال: والله لولا انكم لم تتغدّوا لسقيتكم أقداحا من نبيذ الزبيب ما شربتم مثله! فلا يصير في أيديهم منه شيء
من نجل ثمامة
وكان ثمامة إذا دخل عليه اصحابه وقد تعشّوا عنده قال لهم: كيف كان مبيتكم ومنامكم؟ فإن قال احدهم إنه نام ليلته في هدوء وسكون، قال: النفس إذا اخذت قوتها أطمأنت! وإذا قال احدهم إنه لم ينم ليلته قال: إنه من افراط الكظّة «1» والإسراف في البطنة! ثم يقول: كيف كان شربكم للماء؟ فإن قال أحدهم: كثيرا.
قال: التراب الكثير لا يبله إلا الماء الكثير وإن قال: قليلا. قال: ما تركت للماء مدخلا! وكان إذا اطعم اصحابه استلقى على قفاه ثم يتلو قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً
«2» .
ودخل عليه رجل وبين يديه طبق فراريج، فغطى الطبق بذيله، وأدخل رأسه في جيبه، وقال للرجل الداخل: ادخل في البيت الآخر حتى أفرغ من بخوري.
أبو جعفر
وشوي لابي جعفر الهاشمي دجاج ففقد فخذا من دجاجة، فأمر فنودي في منزله:
من هذا الذي تعاطى فعقر! والله لا أخبز في التنور شهرا أو تردّ! فقال ابنه الاكبر:
يا أبت، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
سهل بن هارون
وقال دعبل الشاعر: كنا يوما عند سهل بن هرون، فأطلنا الحديث حتى أضرّ به الجوع، فدعا بغذائه، فإذا بصحفة عدمليّة «3» فيها مرق لحم ديك قد هرم، لا تحز فيه السكين، ولا تؤثر فيه الضرس [فأخذ قطعة خبز فقلب بها جميع ما في الصحفة، ففقد الرأس، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام، وقال: أين الرأس؟ قال:
رميت به. قال: لم؟ قال: لم أظنك تأكله ولا تسأل عنه. قال: ولأي شيء ظننت ذلك؟ فو الله إني لا بغض من يرمي برجله فضلا عن رأسه، والرأس رئيس الاعضاء،وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك! وفيه العين التي يضرب بها المثل في الصفاء، فيقال: شراب مثل عين الديك؛ ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم ير قط عظم أهش من عظم رأسه، فإن كان بلغ من جهلك أن لا تأكله فعندنا من يأكله، انظر أين هو؟ قال: والله ما أدري أين رميته. قال: لكني والله أدري، رميت به في بطنك!
زياد بن عبد الله
وأهدى رجل من قريش لزياد بن عبيد الله وهو على المدينة طعاما فثقل عليه ذلك، فقال: اجمعوا المساكين وأطعموهم إياه! فجمعوا، وكشف عن الطعام، فإذا طعام له بال، فندم على الإرسال للمساكين، وقال للغلام: انطلق إلى هؤلاء المساكين وقل لهم: إنكم تجتمعون في المسجد فتفسون فيه فتؤذون الناس! لا اعلم انه اجتمع فيه منكم اثنان!
عبد الله بن يحيى
وقال: دخلت على عبد الله بن يحيى بن خالد بن أمية، وقوم يأكلون عنده، فمدّ يده إلى رغيف من الخوان فرفعه، وجعل يرطله «1» بيد ويقول: يزعمون أن خبزي صغير، فمن هذا الزاني ابن الزانية الذي يأكل نصف رغيف منه.
قال: ودخلت عليه يوما والمائدة موضوعة، والقوم يأكلون، وقد رفع بعضهم يده، فممدت يدي لآكل، فقال: اجهز على الجرحى، ولا تتعرض للاصحاء! يقول:
تعرّض للدجاجة التي قد نيل منها، والفرخ المأخوذ منه؛ فأما الصحيح فلا تتعرض له. هذا معناه في الجرحى [والاصحاء] .
لجمين في بخيل
وسأل يحيى بن خالد ابا الحارث جمّين عن طعام رجل، فقال: أما مائدته فمقبّبة، وأما صحافه فمخروطة من حب الخردل، وبين الرغيف والرغيف فترة نبي. قال: فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون. قال: فمن يأكل معه؟ قال: الذباب. قال له يحيى:
وأرى ثوبك مخرقا، أفلا يكسوك ثوبا وأنت في صحبته؟ قال: جعلت فداك، والله لو ملك بيتا من بغداد إلى الكوفة مملوءا إبرا، وفي كل ابرة منها خيط، وجاءه يعقوب يسأله إبرة منها يخيط بها قميص يوسف ابنه الذي قدّ من دبر، ومعه جبريل وميكائيل يضمنان عنده، لم يفعل.
لابن مسلمة
أخذ هذا المعنى محمد بن مسلمة، فقال يهجو ابن الاغلب:
لو أنّ قصرك يا ابن أغلب كلّه ... إبر يضيق بهن رب المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قدّ قميصه لم تفعل! «1»
وقيل لجمّين: أتغذيت عند فلان! قال: لا، ولكنني مررت به يتغذى! قيل:
فكيف علمت أنه يتغذى؟ قال رأيت غلمانه ببابه في أيديهم قسى البندق يرمون الذباب في الهواء! وقال أبو الحارث جمّين: دخلت على فلان، فوضع بين أيدينا مائدة- كنا أشوق إلى الطعام إذ رفعت منا إليه إذ وضعت-!
اعرابي على مائدة هشام
وحضر اعرابي سفرة هشام بن عبد الملك، فبينا هو يأكل إذ تعلقت شعرة في لقمة الاعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمنك يا اعرابي! قال: وإنك لتلاحظنني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا اكلت عندك أبدا! وخرج وهو يقول:
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الاكيل على عمد
وقال آخر:
ولو عليك اتّكالي في الغداء إذا ... لكنت أوّل مقتول من الجوع
يقول عند دعاء الضّيف مبتدئا ... صوت ضعيف وداع غير مسموع
المغيرة وبخله
قال المدائني: كان للمغيرة بن عبد الله الثقفي وهو والي الكوفة، جدي يوضع على مائدته بعد الطعام، لا يمسه هو ولا احد ممن يحضر، فحضر مائدته أعرابيّ، فبسط يده، وأسرع في الأكل، فقال: يا اعرابي، إنك لتأكل الجدي بحرد «1» كأنّ أمه نطحتك، فقال له الاعرابي: أصلحك الله، وانت تشفق عليه كأنّ أمّه أرضعتك! ثم بسط الاعرابي يده إلى بيضة بين يده، فقال: خذها فإنها بيضة العقر! فلم يحضر طعامه بعد ذلك.
أشعب ووالي المدينة
ودخل أشعب على والي المدينة، فحضر طعامه، وكان له جدي على مائدته يتحاماه كل من حضر، فبدر إليه أشعب فمزقه، فقال له: يا أشعب، إن اهل السجن ليس لهم إمام يصلى بهم، فإن رأيت ان تكون لهم إماما تصلي بهم، فإن في ذلك أجرا! فقال: والله ما احبّ هذا الأجر، ولكن زوجتي طالق إن أكلت لحم جدي عندك حتى ألقى الله!
الكندي
قال عمرو بن ميمون: تغدّيت يوما عند الكندي، فدخل عليه رجل كان جارا وصديقا له، فلم يعرض عليه الطعام، ونحن نأكل، فاستحيت أنا منه، فقلت: سبحان الله، لو دنوت فأصبت معنا! قال: قد والله فعلت. قال الكندي: ما بعد الله شيء! قال: فكنفه والله كتافا لو بسط يده لأكل بعده لكان كافرا! قال: ومررت ببعض طرق الكوفة، فإذا أنا برجل يخاصم جارا له، فقلت: ما بالكما؟ فقال احدهما: إن صديقا لي زارني واشتهى عليّ رأسا، فاشتريته له وتغدينا.
فأخذت عظمامه فوضعتها عند باب داري اتجمل بها عند جيراني، فجاء هذا وأخذها ووضعها على باب داره، يوهم الناس أنه هو الذي أكل الرأس.
بخيل وولده
قال رجل من البخلاء لولده: اشتروا لي لحما، فاشتروا له، وأمر بطبخه حتى تهرّأ، فأكل منه حتى انتهت نفسه [ولم يبق إلا العظم] ، وشرعت إليه عيون ولده، فقال: ما أنا مطعمه أحدا منكم إلا من أحسن صفة أكله! فقال الاكبر: أتعرّقه «1» يا أبت، حتى لا أدع للذرّة فيه مقيلا! قال: لست بصاحبه! فقال الاوسط: أتعرّقه يا أبت حتى لا يدرى ألعامه هو أم لعام أول! قال: لست بصاحبه! فقال الاصغر:
أتعرّقه يا أبت، ثم أدقه دقا، وأسفه سفا؟ قال: أنت صاحبه، وهو لك دونهم.
الثوري
وقال عمرو بن بحر الجاحظ: كان ابو عبد الرحمن الثوري يعجبه الرءوس ويصفها، وكان يسمّي الرأس عرسا لما فيه من الالوان الطيبة، وربما سماه الكامل والجامع؛ ويقول: الرأس شيء واحد، وهو ذو الوان عجيبة وطعوم مختلفة، والرأس فيه الدماغ، وطعمه مفرد، وفيه العينان، وطمعمهما مفرد، والشحمة التي بين أصل الاذن ومؤخر العين، وطعمها مفرد، على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ، وأرطب من الزبد، وأدسم من السلاء؛ وفي الرأس اللسان، وطعمه مفرد، والخيشوم، والغضروف، ولحم الخدين، وكل شيء من هذه طعمه مفرد؛ والرأس سيد البدن،والدماغ هو معدن العقل، وحاسة الحواس وبه قوام البدن، وفيه يقول الشاعر:
إذا نزعوا رأسي، وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمّ سائري ...
لاعرابي في الرأس
وقيل لاعرابي: اتحسن أن تأكل الرأس؟ قال: نعم؛ أعض العينين، وأفك لحييه، وأنقي خديه، وأرمي بالدماع إلى من هو أحق مني، وكانوا يكرهون أكل الدماغ، ولذا يقول قائلهم.
ولا أبتغي المخّ الذي في الجماجم
نصيحة ابي عبد الرحمن لابنه
وكان أبو عبد الرحمن يجلس مع ابنه يوم الرأس ويقول له: إياك ونهم الصبيان وبغر»
السباع، واخلاق النوائح، ونهش الاعراب، وكل ما بين يديك، فإنما حظك منه ما قابلك، واعلم أنه إذا كان في الطعام شيء ظريف، من لقمة كريمة، او مضغة شهية، فانما ذلك للشيخ المعظم، والصبي المدلل، ولست بواحد منهما، وقد قالوا.
مدمن اللحم كمد من الخمر؛ أي بنيّ، لا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال، ولا تنهش نهش السباع، وعوّد نفسك الأثرة «2» ، ومجاهدة الهوى والشهوة؛ فإن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعدّ نفسك من الزّمنى؛ واعلم أن الشّبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت. ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة؛ لانه قاتل نفسه، وقاتل نفسه الأم من قاتل غيره أي بني، والله ما أدى حق الركوع والسجود ذو كظة ولا خشع لله ذو بطنة، والصوم صحة؛ والوجبات عيش الصالحين أي بني، لأمر ما طالت أعمار الرهبان، وصحت أبدان الاعراب؛ لله درّ الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم «1» ، وان الداء كله هو من فضول الطعام؛ فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة؟ أي بنيّ، ما صار الضبّ أطول شيء عمرا إلا أنه يتبلّغ بالنسيم؛ وما زعم الرسول أن الصوم وجاء «2» إلا انه جعله حاجزا دون الشهوات: فافهم تأديب الله وتأديب الرسول؛ أي بني، قد بلغت تسعين عاما ما نغض لي سنّ، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت وكف انف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول؛ وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد؛ فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك.
ابو الاسود الدؤلي
ومن البخلاء: أبو الأسود الدؤلي: وقفت عليه امرأة وهو في فسطاط وبين يديه طبق تمر، فقالت: السلام عليك! قال ابو الاسود: كلمة مقبولة.
ووقف عليه اعرابي، وهو يأكل فقال الاعرابي: أدخل؟ قال وراءك أوسع لك! قال: الرمضاء احرقت رجلي! قال: بل عليهما تبردان! قال أتأذن لي ان آكل معك؟
قال: سيأتيك ما قدّر لك! قال: تالله ما رأيت رجلا الأم منك. قال: بلى قد رأيت إلا انك نسيت! ثم اقبل ابو الاسود يأكل، حتى [إذا] لم يبق في الطبق الا تميرات يسيرة نبذها له، فوقعت تمرة منها، فأخذها الاعرابي ومسحها بكسائه، فقال ابو الاسود. يا هذا، إن الذي تمسحها به أقذر من الذي تمسحها له. قال: كرهت ان ادعها للشيطان! قال: لا والله، ولا لجبريل وميكائيل ما كنت لتدعها.
الأصمعي قال: مرّ رجل بأبي الاسود الدؤلي وهو يقول: من يعشّي الجائع؟ فقال ابو الاسود: عليّ به، فأتاه بعشاء كثير. وقال: كل حتى تشبع! فلما اكل ذهب ليخرج؛ قال: أين تريد؟ قال: أريد اهلي. قال: لا ادعك تؤذي المسلمين الليلةبسؤالك! اطرحوه في الادهم «1» ! فبات عنده مكبولا حتى اصبح!
ابن ابي حفصة وضيف
قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة، فأخلى له المنزل ثم هرب عنه، مخافة ان يلزمه قراه تلك الليلة؛ فخرج الضيف فاشترى ما يحتاجه، ثم رجع وكتب إليه.
يأيّها الخارج من بيته ... وهاربا من شدّة الخوف
ضيفك قد جاء بزاد له ... فارجع تكن ضيفا على الضّيف!
وقال آخر:
بتّ ضيفا لهشام ... في شرابي وطعامي
وسراجي الكوكب الدّ ... رّيّ في داج الظلام «2»
لا حراما أجد الخ ... بز ولا غير الحرام!
وله:
بت ضيفا لهشام ... فشكا الجوع! عدمته!
وبكى- لا صنع الله ... له- حتى رحمته
وكان شيخ من البخلاء يأتي ابن المقفع، فيلحّ عليه أن يتغدّى عنده في منزله، فيمطله ابن المقفع، فيقول: أتراني أتكلف لك شيئا؟ لا والله، لا أقدم لك إلا ما عندي، فلا تتثاقل عليّ! فلم يزل به حتى أجابه، وأتى به إلى منزله، فإذا ليس عنده إلا كسر يابسة وملح جريش، فقدمه له؛ ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك فيك! فألح في السؤال، فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقّنّ ساقيك! فقال ابن المقفع للسائل: أرح نفسك وانج والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت أنا من صدق وعده ما وقفت ساعة ولا راجعته كلمة.
وانتقل رجل من البخلاء إلى دار فابتاعها، فلما حلها وقف سائل، فقال له: صنع الله لك! ثم وقف ثان، فقال له مثل ذلك، ثم وقف ثالث، فقال له مثل ذلك؛ فقال لابنته: ما أكثر السؤال في هذا المكان! فقالت له: يا أبت، ما تمسكت لهم بهذا القول فما تبالي كثروا ام قلوا؟
الأصمعي: تقول العرب: ما علمتك إلا برما قرونا. البرم: الذي يأكل مع اصحابه ولا يجعل لهم شيئا، والقرون: الذي يأكل تمرتين تمرتين.
حميد الارقط
وألأم اللئام وأبخل البخلاء حميد الارقط، الذي يقال له هجّاء الاضياف؛ وهو القائل في ضيف نزل به وآكله:
ما بين لقمته الاولى إذا انحدرت ... وبين أخرى تليها قيد أظفور «1»
وله:
تجهّر- كفّاه ويحدر حلقه ... إلى الزّور ما ضمّت عليه الأنامل
أتانا وما سواه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل
فما زال عنه اللّقم حتى كأنه ... من العيّ لما ان تكلم باقل
وله في الاضياف:
لا مرحبا بوجوه القوم إذ دخلوا ... دسم العمائم تحكيها الشياطين
باتوا وجلّة تمر حلّ بينهم ... كأنّ أيديهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرّسهم ... وليس كلّ النّوى تلقى المساكين «2»
ما قالت الشعراء في طعام البخلاء
فمن اهجى ما قيل في طعام البخلاء قول جرير في بني تغلب:
والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا
وقوله فيهم:
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار «1»
قوم إذا استنبح الاضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار
وقال الراعي:
اللاقطين النّوى تحت الشياه كما ... نحت كرادم دهم في مخاليها «2»
فأين هؤلاء من قول الآخر:
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغدّى رفعت ستوره
ولآخر:
أبو نوح، أتيت إليه يوما ... فغدّاني برائحة الطعام
وجاء بلحم لا شيء سمين ... فقدّمه على طبق الكلام
فلمّا أن رفعت يدي سقاني ... كئوسا حشوها ريح المدام
فكنت كمن سقى ظمآن آلا ... وكنت كمن تغدّى في المنام «3»
ولآخر:
تراهم خشية الاضياف خرسا ... يصلّون الصلاة بلا أذان
ولحماد بن جعفر:
حديث أبي الصلت ذو خبرة ... بما يصلح المعدة الفاسده
تخوّف تخمة إخوانه ... فعوّدهم أكلة واحده
ولآخر:
أتانا بخبز له حامض ... كمثل الدراهم في رقّته
إذا ما تنفّس حول الخوان ... تطاير في البيت من خفّته
فنحن كظوم له كلنا ... نردّ التنفس من خشيته
فيكلمه اللّحظ من رقّة ... ويأكله الوهم من قلّته
نزل رجل من العرب ببخيل، فقدّم إليه جرادا، فعافه وأمر برفعه، وقال:
لحا الله بيتا ضمّني بعد هجعة ... إليه دجوجي من الليل مظلم
فأبصرت شيخا قاعدا بفنائه ... هو العير إلا أنه يتكلم
أتانا ببرقان الدّبى في إنائه ... ولم يك برقان الدّبى لي مطعم
فقلت له غيّب إناءك واعتزل ... فهذا وهذا لا أبا لك مسلم
ضاف القطامي الشاعر في ليلة ريح ممطرة عجوزا من محارب، فلم تقره شيئا؛ فرحل عنها وقال:
تضيّفت في برد وريح تلفّني ... وفي طرمساء غير ذات كواكب
إلى حيزبون توقد النار بعدما ... تلفّعت الظّلماء من كلّ جانب
تصلى بها برد العشاء ولم تكن ... تخال وميض النار يبدو لراكب
فما راعها إلا بغام مطيّتي ... تريح بمحسور من الصوت لاغب «1»
فجنّت جنونا من دلاث مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب «2»
سرى في جليد الليل حتى كأنما ... تخرّم بالأطراف شوك العقارب «3»
تقول وقد قرّبت كوري وناقتي ... إليك فلا تذعر عليّ ركائبي
فسلّمت والتسليم ليس يسرّها ... ولكنه حق على كلّ جانب «4»
فردّت سلاما كارها ثم أعرضت ... كما انحاشت الأفعى مخافة ضارب
فلما تنازعنا الحديث سألتها ... من الحيّ؟ قالت: معشر من محارب
من المشتوين القدّ في كلّ شتوة ... وإن كان عام الناس ليس بناصب
فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ... عليّ مبيت السّوء ضربة لازب
وقمت إلى مهريّة قد تعوّدت ... يداها ورجلاها حثيث المواكب
ألا إنها نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
وقال الخليل بن أحمد:
كفّاه لم تخلقا للندى ... ولم يك بخلهما بدعه
فكف عن الخير مقبوضة ... كما نقصت مائة سبعه
وكفّ ثلاثة آلافها ... وتسع مئات لها شرعه
وقال غيره:
وجيرة لا ترى في الناس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يبلغنا ما تنضج النار
وقال احمد بن نعيم السلمي في بني حسان:
إذا احتفلوا للضيف لهوج قدرهم ... جراديم أشباه النّخاعة تبلع «1»
تبلّ جيار الضيف حتى تردّه ... وتصبح من عين استه تتطلّع
ويقريك من أكرهته من سوادهم ... قرى الحيّ أو أدنى لجوع وأبشع
عظاما وأرواثا وبعرا وإن يكن ... لدى القوم نار يشتوي لك ضفدع
ولآخر:
فبتنا كأنهم بينهم أهل مأتم ... على ميّت مستودع بطن ملحد
يحدّث بعض بعضنا بمصابه ... ويأمر بعض بعضنا بالتجلّد! «2»
ولآخر:
ذهب الكرام فلا كرام ... وبقي الغطاريف اللّئام
من لا يقيل ولا يني ... ل، ولا يشمّ له طعام
ولآخر:
صدّق أليّته إن قال مجتهدا ... لا والرغيف، فذاك البرّ من قسمه
فإن هممت به فافتك بخبزته ... فإنّ موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبني لو أنّ غيرته ... على جرادته كانت على حرمه
ولآخر:
إنّ هذا الفتى يصون رغيفا ... ما إليه لناظر من سبيل
هو في سفرتين من أدم الطّا ... ئف في سلتين في منديل
في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند ميكائيل
وقال ابو نواس في فضل الرقاشي:
رأيت قدور الناس سودا من الطّلا ... وقدر الرّقاشييّن زهراء كالبدر
يضيق بحيزوم البعوضة صدرها ... ويخرج ما فيها على قلم الظّفر
إذا ما تنادوا للرّحيل سعى بها ... أمامهم الحوليّ من ولد الذرّ
وقال في إسماعيل الكاتب:
خبز إسماعيل كالوش ... ي إذا ما انشقّ يرفا «1»
عجبا من أثر الصن ... عة فيه كيف يخفى
إن رقاءك هذا ... ألطف الأمّة كفا
فإذا قابل بالنّص ... ف من الجردق نصفا «2»
أحكم الصّنعة حتى ... ما يرى مغرز إشفى
ولآخر:
ارفع يمينك من طعامه ... إن كنت ترغب في كلامه
سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عطافه
ولآخر:
رأيت الخبز عزّ لديك حتى ... حسبت الخبز في جوف السحاب
وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزئة الذّباب
ولآخر:
يحذر- أن تتخم إخوانه ... إنّ أذى التخمة محذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده ... بالصّوم والصائم مأجور
ومن قولنا في نحوه:
لا يفطر الصائم من أكله ... لكنه صوم لمن أفطرا
في وجهه من لؤمه شاهد ... يكفى به الشاهد أن يخبرا
لم يعرف المعروف أفعاله ... قطّ كما لم ينكر المنكرا
وقال آخر:
خليليّ من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن فرعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجدا ... ولم يدر أنّ المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سدّ بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين












مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید