المنشورات
احتجاج البخلاء
الأصمعي قال: قال أبو الأسود الدؤلي: لو أطعمنا المساكين أموالنا لكنا أسوأ حالا منهم!
وقال لبنيه: لا تطيعوا المساكين في أموالكم، فإنهم لا يقنعون منكم حتى يروكم مثلهم! وقال لهم أيضا: لا تجاودوا الله، فإنه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل، ولكنه علم أن قوما لا يصلحهم الغنى ولا يصلح لهم إلا الفقر، وقوما لا يصلحهم الفقر ولا يصلح لهم إلا الغنى! وقال سهل بن هارون: لو قسمت في الناس مائة ألف لكان الأكثر لائمي.
ونحوه قول ابن الجهم: منع الجميع أرضى للجميع.
كندي وتغلبي
: وقال رجل من تغلب: أتيت رجلا من كندة أسأله، فقال: يا أخا بني تغلب إني لن أصلك حتى أحرم من هو أقرب إليّ منك، وإني والله لو مكنت من داري لنقضوها طوبة طوبة، والله يا أخا بني تغلب ما بقي بيدي من مالي وأهلي وعرضي إلا ما منعته من الناس.
وقال آخر: من أعطى من الفضول قصّر عن الحقوق.
ابن هارون وسائل
: وقال رجل لسهل بن هارون: هبني ما لا مرزئة عليك فيه، قال: وما ذاك يا ابن أخي؟ قال: درهم واحد! قال: يا ابن أخي لقد هوّنت الدرهم وهو طائع الله في أرضه الذي لا يعصى، والدرهم ويحك عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم! ألا ترى يا ابن أخي إلى أين انتهاء الدرهم الذي هوّنته؟ وهل بيوت المال إلا درهم على درهم.
من وصية لقمان لابنه
: وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بنيّ، أوصيك باثنتين ما تزال بخير ما تمسكت بهما: درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك.
وقال أبو الأسود: إمساكك ما بيدك، خير من طلبك ما بيد غيرك. وأنشد في المعنى:
يلومونني في البخل جهلا وضلّة ... وللبخل خير من سؤال بخيل
ونظيره قول المتلمس:
وحبس المال خير من نفاد ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق فإن مالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه! قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله! قال: لا، ولكن أخاف أن لا أموت في أوله!
الجاحظ والخزامي
: وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم؛ لأنه لا يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلّم لي المال وسمّني بأي اسم شئت! فقال: جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم.
قال: بينهما فرق عجيب وبون بعيد: إن في قولهم بخيل، سببا لمكث المال؛ وفي قولهم سخي، سببا لخروج المال عن ملكي؛ واسم البخيل فيه حفظ وذمّ، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع، ومكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية، ومسمعة وطرمذة»
؛ وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه، وعري ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه! وقال محمد بن الجهم: من شأن من استغنى عنك أن لا يقيم عليك، ومن احتاج إليك أن لا يزول عنك؛ فمن حبك لصديقك وضنك بمودته أن لا تبذل له ما يغنيه عنك، وأن تتلطف له فيما يحوجه إليك وقد قيل في مثل هذا: أجع كلبك يتبعك، وسمّنه يأكلك؛ فمن أغنى صديقه فقد أعانه على الغدر، وقطع أسبابه من الشكر؛ والمعين على الغدر شريك الغادر، كما أن مزيّن الفجور شريك الفاجر.
من وصية الأسدي لبنيه
: وقال يزيد بن عمر الأسدي لبنيه: يا بنيّ، تعلموا الردّ؛ فإنه أسدّ من العطاء ولأن تعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم، أعظم له في أعينهم من أن يقسمها عليهم؛ ولأن يقال لأحدكم بخيل وهو غني، خير له من أن يقال سخيّ وهو فقير.
وقال الحزامي: يقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك؛ فما ظنك إن كان أقصر مني، أليس يتخيّل في قميصي؟ وإن كان أطول مني، أليس يصير آية للسابلين، فمن أسوأ أثرا على صديقه ممن جعله ضحكة؟ فما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه فيه مثلي؛ ومتى يتفق هذا؟
أبو نواس وفقيه
: وقال أبو نواس: كان معنا في السفينة ونحن نريد بغداد، رجل من أهل خراسان، وكان من فقهائهم وعقلائهم، وكان يأكل وحده، فقلت له: لم تأكل وحدك؟ فقال:
ليس عليّ في هذا مسألة؛ إنما المسألة على من أكل مع الجماعة لأنه يتكلف، وأكلي وحدي هو الأصل، وأكلي مع الجماعة تكلّف ما ليس عليّ.
ووقع درهم بيد سليمان بن مزاحم، فجعل يقلبه ويقول. في شق: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ وفي شق آخر: قل هو الله أحد؛ ما ينبغي لهذا أن يكون إلا تعويذة ورقية! ورمي به في الصندوق.
وكان أبو عيسى بخيلا، وكان إذا وقع الدرهم بيده طنّه «1» بظفره وقال: يا درهم كم من مدينة دخلتها؟ وأيد دوّختها؟ فالآن استقرّ بك القرار، واطمأنت بك الدار! ثم رمى به في الصندوق.
ابن أشرس وسائل
: وقال رجل لثمامة بن أشرس: إن لي إليك حاجة ... قال: وأنا لي إليك حاجة! قال: وما حاجتك إليّ؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها! قال: قد فعلت. قال:
فإن حاجتي لك أن لا تسألني حاجة! فانصرف الرجل عنه.
وكان ثمامة يقول: ما بال أحدكم إذا قال له الرجل اسقني، أتى بإناء على قدر اليد أو أصغر، وإذا قال أطعمني، أتاه من الخبز بما يفضل عن الجماعة، والطعام والشراب أخوان! أما إنه لولا رخص الماء وغلاء الخبز ما كلبوا على الخبز وزهدوا في الماء؛ الناس أرغب شيء في المأكول إذا كثر ثمنه، أو كان قليلا في منبته؛ ألا ترى الباقلا الأخضر أطيب من الكمثري، والباذنجان أطيب من الكمأة «1» ؛ ولكن أهل التحصيل والنظر قليل، وإنما يشتهون قدر الثمن! وكان يقول: إياكم وأعداء الخبز أن تأتدموا بها، وأعدى عدو له المالح، فلولا أن الله أعان عليه بالماء لأهلك الحرث والنسل.
وكان يقول: كلوا الباقلا بقشره، فإن الباقلّا يقول: من أكلني بقشري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشري فقد أكلته؛ فما حاجتكم أن تصيروا طعاما لطعامكم؟
ابن هبيرة وعقيلي
: الأصمعي قال قد جاء رجل من بني عقيل إلى عمر بن هبيرة، فمتّ إليه بقرابة وسأله أن يعطيه، فلم يعطه شيئا؛ ثم عاد إليه بعد أيام فقال: أنا العقيلي الذي سألتك منذ أيام! فقال له ابن هبيرة: وأنا الفزاري الذي منعك منذ أيام! فقال معذرة إليك، إني سألتك وأنا أظنك يزيد بن هبيرة المحاربي! قال: ذلك ألأم لك عندي، وأهون بك عليّ؛ نشأ في قومك مثلي فلم تعرفه، ومات مثل يزيد ولم تعلم به! يا حرسيّ، اسفع «1» بيده! ومن أشعار البخلاء التي يتمثلون بها:
وزهّدني في كلّ خير صنعته ... إلى الناس ما جرّبت من قلة الشكر
ولآخر:
ارقع قميصك ما اهتديت لجيبه ... فإذا أضلّك جيبه فاستبدل
ولابن هرمة:
قد يدرك الشّرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ومن أمثالهم في البخل وخلف الوعد قولهم: تختلف الأقوال إذا اختلفت الإخوان؛ وقولهم:
كلام الليل يمحوه النهار
وقولهم:
بروق الصيف كاذبة الوعود
رسالة سهل بن هارون في البخل
بسم الله الرحمن الرحيم، أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير وجعلكم من أهله؛ قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار. وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عيّابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهي مرشدا وأن تغري بمشفق.
وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإصلاح فاسدكم، وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم؛ وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم، ولأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم؛ ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
«1» ؛ فما كان أحقنا بكم في حرمتنا بكم أن ترعوا حقّ قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم ولا بواجب الحرمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب برّا وفخرا لرأينا في أنفسنا عن ذلك شغلا.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين، فهو أطيب لطمعه، وأزيد في ريعه؛ وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أملكوا «2» العجين، فإنه أحد الريعين.
وعبتموني حين ختمت على سدّ عظيم «3» ، وفيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نفيسة؛ ومن رطبة غريبة، على عبد نهم، وصبيّ جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة؛ وليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادة القادة، ولا في تدبير السادة، أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب- التابع والمتبوع، والسيد والمسود؛ كما لا تستوي مواضعهم في المجالس، ومواقع أسمائهم في العنوان؛ ومن شاء أطعم كلبه الدجاج السمين، وعلف حماره السمسم المقشّر! فعبتموني بالختم، وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق، وعلى كيس فارغ،وقال: طينة خير من ظنّة، فأمسكتم عمن ختم على لا شيء، وعبتم من ختم على شيء! وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج، ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق؛ وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا طبخ أحدكم لحما فليزد من الماء، فمن لم يصب لحما أصاب مرقا» .
وعبتموني بخصف «1» النعل، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالنّسك، وأن الترقيع من الحزم، والتفرّق مع التضييع؛ والاجتماع مع الحفظ. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخصف نعله، ويرقع ثوبه؛ ويلعق أصابعه، ويقول: «لو أهدي إليّ ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت» . وقال عليه الصلاة والسلام: «من لم يستحي من الحلال خفّت مئونته، وقل كبره» ؛ وقالت الحكماء: لا جديد لمن لم يلبس الخلق. وبعث زياد رجلا يرتاد له محدّثا، واشترط عليه أن يكون عاقلا، فأتاه به موافقا، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكنني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا ويلبس الناس جديدا؛ فتفرّست فيه العقل والأدب، وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه؛ وقد جعل الله لكل شيء قدرا وسما به موضعا؛ كما جعل لك زمان رجالا، ولكل مقام مقالا؛ وقد أحيا الله بالسم، وأمات بالدواء، وأغصّ بالماء؛ وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين؛ وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز، وأمر مالك بن أنس بفرسك النعل؛ وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة؛ ولبس سالم بن عبد الله بجلد أضحية «2» ؛ وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن كان لا بد فاجعلها بيوضا.
وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي؛ فلقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشفّ من الكفاية؛ فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء، وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء «1» ، وجدت في الأعضاء فضلا على الماء؛ فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوّله، ولكان نصيب [العضو] الأول كنصيب الآخر؛ فعبتموني بذاك وشنعتم عليّ؛ وقد قال الحسن وذكر السّرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ؛ فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه بالكلأ.
وعبتموني أن قلت: لا يغترّنّ أحدكم بطول عمره، وتقوّس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوته، وأن يرى نحوه أكثر ذريته؛ فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكيم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه؛ فلعله أن يكون معمرا؛ وهو لا يدري، وممدودا له في السنّ وهو لا يشعر؛ ولعله أن يرزق الولد على اليأس، أو يحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على بال ولا يدركه عقل، فيستردّه ممن لا يردّه، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه؛ أصعب ما كان عليه الطلب، وأقبح ما كان به أن يطلب؛ فعبتموني بذلك وقد قال عمرو بن العاص:
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وعبتموني بأن قلت بأن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك [أسرع] وأن الحفظ للمال المكتسب، والغنى المجتلب، وإلى ما يعرض فيه لذهاب الدين، واهتضام العرض، ونصب البدن، واهتمام القلب- أسرع؛ ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر، وطاب نفسا بالذل.
وعبتموني بأن قلت: إن كسب الحلال يضمن الإنفاق في الحلال، وأن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وأن الطيب يدعو إلى الطيب، وأن الإنفاق في الهوى حجاز دون الحقوق؛ فعبتم عليّ هذا القول؛ وقد قال معاوية: لم أر تبذيرا قط إلا وإلى جنبه تضييع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا فيما ذا ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف.
وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم: أنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات؛ فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى بقيّة، فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة؛ فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع؛ و [قد] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العبد والأمة والشاة والبعير: فرّقوا بين المنايا واجعلوا الرأس رأسين. وقال ابن سيرين [لبعض البحريّين] : كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرّقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض، ولولا أن السلامة أكثر؛ ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع.
وعبتموني بأن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكرا، وللمال لنزوة؛ فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله؛ فعبتموني بذلك؛ وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا من غنيّ أمن الفقر. وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر.
وقال الشاعر في يحيى بن خالد بن برمك:
وهوب تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما «1»
وعبتموني حين زعمت أني أقدّم المال على العلم؛ لأن المال به يفاد العلم، وبه تقوم النفس قبل أن يعرف فضل العلم فهو أصل، والأصل أحق بالتفضيل من الفرع؛ فقلتم: كيف هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء: آلأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء، قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟
قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال، وجهل الأغنياء بحقّ العلم؛ فقلت: حالهما هي القاضية بينهما، وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه، وشيء يغنى فيه بعضهم عن بعض؛ وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج؛ وقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد، وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض.
وعبتموني حين قلت: [إن] فضل الغني على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت، إن احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدّة، وقد قال الحضين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشيء! قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه، لأن المال مخدوم؛ وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن [لك] فيه إلا أنه عزّ في قلبك، وذلّ في قلب عدوّك، لكان الحظ فيه جسيما، والنفع فيه عظيما.
ولسنا ندع سيرة الأنبياء، وتعليم الخلفاء، وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو؛ ولستم عليّ تردّون، ولا رأيي تفنّدون، فقدّموا النظر قبل العزم، وادّكروا ما عليكم قبل أن تدركوا ما لكم، والسلام عليكم.
ومن اللؤم: التطفيل، وهو التعرّض للطعام من غير أن يدعى إليه.
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
15 مايو 2024
تعليقات (0)