المنشورات
أخبار المحارفين
منهم أبو الشمقمق الشاعر، وكان أديبا ظريفا ومحارفا «1» ، وكان صعلوكا متبرما بالناس، وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه، خرج فينظر من فروج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه؛ فأقبل إليه يوما بعض إخوانه الملطفين له، فدخل عليه فلما رأى سوء حاله قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث: «إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة» . فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزّازا «2» ! ثم أنشأ يقول:
أنا في حال تعالى الله ... ربّي أيّ حال
ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أهزلت حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أفلست حتى ... حلّ أكلي لعيالي
وله:
أتراني أرى من الدهر يوما ... لي فيه مطية غير رجلي؟
كلما كنت في جميع فقالوا ... قرّبوا للرّحيل، قرّبت نعلي!
حيثما كنت لا أخلّف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي!
وقال ابو الشمقمق أيضا:
[لو] قد رأيت سريري كنت ترحمني ... الله يعلم مالي فيه تلبيس
والله يعلم مالي فيه شائبة ... إلا الحصيرة والأطمار والدّيس «1»
وقال أيضا:
برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على احد حجابي
فمنزلي الفضاء، وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع السّحاب
فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... عليّ مسلما من غير باب
لأني لم اجد مصراع باب ... يكون من السحاب إلى التراب
ولا انشقّ الثّرى عن عود نحت ... أؤمّل أن أشاريه ببابي
ولا خفت الإباق على عبيدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي «2»
ولا حاسبت يوما قهرمانا ... محاسبة فأغلط في حسابي
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدّهر ذا أبدا ودابي
وقال أيضا:
لو ركبت البحار صارت فجاجا ... لا ترى في متونها أمواجا
فلو أنّي وضعت ياقوتة حمراء ... في راحتي لصارت زجاجا
ولو انّي وردت عذبا فراتا ... عاد لا شكّ فيه ملحا أجاجا
فإلى الله أشتكي وإلى الفضل ... فقد أصبحت بزاتي دجاجا
وقال عمر بن الهدير:
وقفت، فلا أدري إلى أين أذهب ... وأيّ أموري بالعزيمة أركب
عجبت لأقدار عليّ تتابعت ... بنحس فأفنى طول دهري التعجّب
ولما التمست الرّزق فانحلّ حبله ... ولم يصف لي من بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... لدقع الغنى إيّاي إذ جئت ومشجب «1»
فأولدتها الحزن النّقي، فما له ... على الارض غيري والد حين ينسب
فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... عليّ دياجيه لما لاح كوكب
ولو خفت شرا فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث تغرب
ولو جاد إنسان عليّ بدرهم ... لرحت إلى رحلي وفي الكف عقرب «2»
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب
ولو لمست كفّاي عقدا منظّما ... من الدّرّ أضحى وهو ودع مثقّب «3»
وإن يقترف ذنبا ببرقة مذنب ... فإنّ برأسي ذلك الذنب يعصب «4»
وإن أر خيرا في المنام فنازح ... وإن أر شرّا فهو مني مقرّب
ولم أغد في أمر أريد نجاحه ... فقابلني إلا غراب وأرنب
أمامي من الحرمان جيش عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب!
وقال آخر:
ليس إغلاقي لبابي أنّ لي ... فيه ما أخشى عليه السّرقا
إنما اغلقته كي لا يرى ... سوء حالي من يمرّ الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا!
وقال الحسن بن هانىء في هذا المعنى:
الحمد لله ليس لي نشب ... فخفّ ظهري وقلّ زوّاري»
من نظرت عينه إلي فقد ... أحاط علما بما حوت داري
جمري في البيت كامن وعلى ... مدرجة الرائحين أسراري
وقال بعض المحارفين:
لزمتني حرفة ما تنقضي ... أبدا حتى أوارى في الجدث
كلزوم الطوق إلا أنها ... تسجد الدهر والطوق يرث «2»
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
15 مايو 2024
تعليقات (0)