المنشورات

الهدايا

كتب سعيد» بن حميد إلى بعض أهل السلطان في يوم النيروز:
«لألها السيد الشريف، عشت أطوال الأعمار بزيادة من العمر موصولة بقرائنها من الشكر، لا ينقضي حق نعمة حتى يجدد لك أخرى، ولا يمرّ بك يوم إلا كان مقصرا عما بعده، موفيا عما قبله. إني تصفحت أحوال الأتباع الذين تجب عليهم الهدايا إلى السادة [في مثل هذا اليوم] ، فالتمست التأسّي بهم في الإهداء، وإن قصرت بي الحال عن الواجب، [فرأيت] أني إن أهديت نفسي فهو ملك لك، لاحظ فيها لغيرك؛ ورميت بطرفي إلى كرائم مالي، فوجدتها منك، فكنت إن أهديت منها شيئا كالمهدي مالك إليك؛ وفزعت إلى مودتي فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة، فرأيتني إن جعلتها هديتي لم أجدد لهذا اليوم الجديد برّا ولا لطفا؛ ولم أميز منزلة من الشكر بمنزلة من نعمتك، إلا كان الشكر مقصرا عن الحق، والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة؛ فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك، والإقرار بما يجب لك برّا أتوصل به إليك؛ وقلت في ذلك:
إن أهد مالا فهو واهبه ... وهو الحقيق عليه بالشكر
أو أهد شكري فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر
والشمس تستغني إذا طلعت ... أن تستضيء بسنّة البدر «2»
وكتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك:
النفس لك، والمال منك، والرجاء موقوف عليك، والأمل مصروف نحوك؛ فما عسى أن أهدي إليك في هذا اليوم، وهو يوم سهلت فيه العادة، سبيل الهدايا للسادة؛ وكرهت أن نخيله من سنته، فنكون من المقصرين؛ أو أن ندعى أن في وسعنا ما يفي بحقك علينا، فنكون من الكاذبين؛ فاقتصرنا على هدية تقتضي بعض الحق، وتنفي بعض الجفوة وتقوم عندك مقام أجمل البر؛ ولا زلت أيها الأمير دائم السرور والغبطة، في أتم أحوال العافية، وأعلى منازل الكرامة، تمرّ بك الأعياد الصالحة والأيام المفرحة، فتخلقها وأنت جديد تستقبل أمثالها، فتلقاك ببهائها وجمالها؛ وقد بعثت الرسول بالسكّر لطيبه وحلاوته، وتركت السفرجل لفأله، والدرهم لبغائه على كل من ملكه (1) ؛ ولا زلت حلو المذاق على أوليائك، مرّا على أعدائك، متقدّما عند خلفاء الله الذين تليق بهم خدمتك، وتحسن أفنيتهم بمثلك.
وقد جمعنا في هذه القصيدة ثناء ومسرّة واعتذارا وتهنئة وهي:
عاط في المهرجان كأسا شمولا ... وأطعني ولا تطيعن عذولا
فهو يوم قد كان آباؤك الغ ... رّ يحلّونه محلّا جليلا
إن للصيف دولة قد تقضّت ... وأراك الشتاء وجها جميلا
وتجلّت لك الرياض عن النّو ... ر فكانت عن كل شيء بديلا
فتمتع باللهو، لا زلت جذلا ... ن وطرف الزمان عنك كليلا
لم أجد لي هديّة حين حصّل ... ت كثيرا ملكته وقليلا
يعدل الشكر والثناء، وإن لم ... يك شكري لما أتيت عديلا
فجعلت الذي أطيق من الشك ... ر ما عجزت عنه دليلا
يا لها من هديّة تقنع المه ... دى إليه ولا تعنّي الرسولا
وكتب بعض الشعراء إلى بعض أهل السلطان في المهرجان:
هذه أيام جرت فيها العادة، بإلطاف العبيد للسادة، وإن كانت البضاعة تقصّر عما تبلغه الهمة، فكرهت أن أهدي فلا أبلغ مقدار الواجب: فجعلت هديتي هذه الأبيات، وهي:
ولمّا أن رأيت ذوي التصابي ... تباروا في هدايا المهرجان
جعلت هدّيتي ردّا مقيما ... على مرّ الحوادث والزمان
وعبدا حين تكرمه ذليلا ... ولكن لا يقرّ على الهوان «1»
يزيدك حين تعطيه خضوعا ... ويرضى من نوالك بالأماني! «2»
وأهدى أبو العتاهية إلى بعض الملوك نعلا وكتب معها:
نعل بعثت بها لتلبسها ... رجل بها تسعى إلى المجد
لو كان يصلح أن أشرّكها ... خدّي جعلت شراكها خدّي «3»
وأهدى عليّ بن الجهم كلبا، وكتب:
استوص خيرا به، فإن له ... عندي يدا لا أزال أحمدها
يدلّ ضيفي عليّ في غسق اللي ... ل إذا النار نام موقدها
أهدى أحمد بن يوسف ملحا مطيّبا إلى إبراهيم بن المهدي، وكتب إليه:
الثقة بك سهّلت السبيل إليك، فأهديت هدية من لا يحتشم، إلى من لا يغتنم.
وأهدى إبراهيم بن المهدي إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي جراب ملح وجراب أشنان «4» ، وكتب إليه:
لولا أن القلة قصّرت عن بلوغ الهمة لأتعبت السابقين إلى برّك، ولكن البضاعة قعدت بالهمة، وكرهت أن تطوى صحيفة البر، وليس لي فيها ذكر؛ فبعت بالمبتدإ به ليمنه وبركته، والمختوم به لطيبه ونظافته؛ وأمّا ما سوى ذلك فالمعبّر عنا فيه كتاب الله تعالى إذ يقول: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ...
«1» إلى آخر الآية.
وكتب إبراهيم بن المهدي إلى صديق له:
لو كانت التحفة على حسب ما يوجبه حقّك، لأجحف بنا أدنى حقوقك؛ ولكنه على قدر ما يخرج الوحشة ويوجب الأنس، وقد بعثت بكذا وكذا.
وكتب رجل إلى المتوكل على الله وقد أهدى إليه قارورة من دهن الأترج:
إن الهدية يا أمير المؤمنين، إذا كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلّت كانت أنفع وأوقع؛ وأرجو أن لا تكون قصرت بي همة أصارتني إليك، ولا أخرّني رشاد دلني عليك، وأقول:
ما قصّرت همة بلغت بها ... بابك يا ذا الندى وذا الكرم
حسبي بودّيك إن ظفرت به ... ذخرا وعزّا يا واحد الأمم
أهدى حبيب بن أوس الطائي إلى الحسن بن وهب قلما، وكتب معه إليه هذه الأبيات:
قد بعثنا إليك أكرمك الله ... بشيء فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندا كفّك الغمر ... ولا نيلك الكثير الجزيل
فاستجز قلّة الهديّة مني ... فقليل المقلّ غير قليل
ومن قولنا في هذا المعنى وقد أهديت سلة عنب ومعها:
أهديت بيضا وسودا في تلوّنها ... كأنّها من بنات الروم والحبش
عذراء تؤكل أحيانا وتشرب أح ... سيانا فتعصم من جوع ومن عطش
وأهديت حوتين وكتبت معهما:
أهديت أزرق مقرونا بزرقاء ... كالماء لم يغذها شيء سوى الماء
ذكاتها الأخذ، ما تنفكّ طاهرة ... بالبرّ والبحر أمواتا كأحياء «1»
وأهديت طبق ورد ومعه:
ورياحين أهديها لريحانة المنى ... جنتها يد التّخجيل من حمرة الخدّ
وورد به حيّيت غرّة ماجد ... شمائله أذكى نسيما من الورد»
ووشي ربيع مشرق اللون ناضر ... يلوح عليه ثوب وشي من الحمد
بعثت بها زهراء من فوق زهرة ... كتركيب معشوقين خدّا على خدّ
وكتبت على كأس:
اشرب على منظر أنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي
واحلل وشاح الكعاب رفقا ... واحذر على خصرها الرقيق
وقل لمن لام في التّصابي ... إليك! خلّى عن الطريق
وأنشد أحمد بن أبي طاهر في هذا المعنى:
ما ترى في هديّة من فقير ... حيل ما بينه وبين اليسار
ترك المال والهدايا إلى النا ... س، وأهدى غرائب الأشعار
محكمات كأنها قطع الرو ... ض تحلّت أنواره بالبهار «3»
وأنشد ابن يزيد المهلبي في المعتمد.
سيبقى فيك ما يهدي لساني ... إذا فنيت هدايا المهرجان
قصائد تملأ الآفاق مما ... أحلّ الله من سحر البيان
وقال آخر:
جعلت فداك، للنيروز حق ... لكان جميعه لك مسترقا
وأهديت الثناء بنظم شعر ... وكنت لذاك منى مستحقا
لأن هدية الألطاف تفنى ... وإن هدية الأشعار تبقى «1»
وقال حبيب:
فو الله لا أنفكّ أهدي شواردا ... إليك يحمّلن الثناء المنخّلا
ألذّ من السلوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوقا وأيسر محملا «2»
وقال مروان بن أبي حفصة:
بدولة جعفر حمد الزمان ... لنا بك كلّ يوم مهرجان
جعلت هديتي لك فيه وشيا ... وخير الوشي ما نسج اللسان
وقال أحمد بن أبي طاهر:
من سنّة الأملاك فيما مضى ... من سالف الدهر وإقباله
هدية العبد إلى ربّه ... في جدّة الدهر وأحواله
فقلت ما أهدى إلى سيدي؟ ... حالي وما خوّلت من حاله
إن أهد نفسي فهي من نفسه ... أو أهد ما لي فهو من ماله
فليس إلا الحمد والشكر وال ... مدح الذي يبقى لأمثاله
وقال الحمدوني وأهدى إليه سعيد بن حميد أضحيّة مهزولة:
لسعيد شويهة ... نالها الضرّ والعجف «3»
فتغنّت وأبصرت ... رجلا حاملا علف:
«بأبي من بكفّه ... برء دائي من الدّنف» «4»
فأتاها مطمّعا ... فأتته لتعتلف
ثم ولّى فأقبلت ... تتغنّى من الأسف:
«ليته لم يكن وقف ... عذّب القلب وانصرف»
وقال الحمدوني: كتبت إلى الحسن بن إبراهيم، وكان كل سنة يبعث إليّ بأضحية، فتأخرت عني سنة، فكتبت إليه:
سيّدي أعرض عني ... وتناسى الودّ مني
مرّ بي أضحى وأضحى ... أخلفاني فيه ظني
لا يراني فيهما أه ... لا لظلف ولقرن
فتعذّيت بيأس ... ثم ضحّيت بجني
واصطبحت الراح يوما ... ثم أنشدت أغني «1»
لا لجرم صدّ عني ... صدّ عني بالتجنّي
من جارية للمأمون
: أهدت جارية من جواري المأمون تفاحة له، وكتبت إليه:
إني يا أمير المؤمنين لما رأيت تنافس الرعية في الهدايا إليك، وتواتر ألطافهم عليك، فكرت في هدية تخف مؤونتها، وتهون كلفتها، ويعظم خطرها، ويجلّ موقعها؛ فلم أجد ما يجتمع فيه هذا النعت، ويكمل فيه هذا الوصف، إلا التفاح؛ فأهديت إليك منها واحدة في العدد، كثيرة في التصرّف؛ وأحببت يا أمير المؤمنين أن أعرب لك عن فضلها، وأكشف لك عن محاسنها، وأشرح لك لطيف معانيها، وما قالت الأطباء فيها، وتفنّن الشعراء في أوصافها، حتى ترمقها بعين الجلالة، وتلحظها بمقلة الصيانة؛ فقد قال أبوك الرشيد رضي الله عنه: أحسن الفاكهة التفاح، اجتمع فيه الصفرة الدّرّية، والحمرة الخمرية، والشّقرة الذهبية، وبياض الفضة، ولون التبر؛ يلذ بها من الحواس: العين ببهجتها، والأنف بريحها، والفم بطعمها. وقال أرسطاطاليس الفيلسوف عند حضوره الوفاة، واجتمع إليه تلاميذه: التمسوا لي تفاحة أعتصم بريحها، وأقضى وطري من النظر إليها. وقال إبراهيم بن هانىء: ما علّل المريض المبتلى، ولا سكنت حرارة الثكلى «1» ، ولا ردّت شهوة الحبلى، ولا جمعت فكرة الحيران، ولا سكنت حنقة الغضبان، ولا تحيّت الفتيان في بيوت القيان، بمثل التفاح. والتفاحة يا أمير المؤمنين، إن حملتها لم تؤذك، وإن رميت بها لم تؤلمك؛ وقد اجتمع فيها ألوان قوس قرح، من الخضرة والحمرة والصفرة؛ وقال فيها الشاعر:
حمرة التّفاح مع خضرته ... أقرب الأشياء من قوس قزح
فعلى التفاح فاشرب قهوة ... وآسقنيها بنشاط وفرح
ثم غنّي لكي تطربني ... طرفك الفتّان قلبي قد جرح
فإذا وصلت إليك يا أمير المؤمنين، فتناولها بيمينك، واصرف إليها بغيتك، وتأمل حسنها بطرفك، ولا تخدشها بظفرك، ولا تبعدها عن عينك، ولا تبذلها لخدمك؛ فإذا طال لبثها عندك، ومقامها بين يديك، وخفت أن يرميها الدهر بسهمه، ويقصدها بصرفه، فتذهب بهجتها، وتحيل نضرتها، فكأنها:
هنيئا مريئا غير داء مخامر
والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
للعباس الهمداني
: وكتب العباس الهمداني إلى المأمون في يوم نيروز:
أهدى لك الناس المرا ... كب والوصائف والذّهب «2»
وهدّيتي حلو القصا ... ئد والمدائح والخطب
فاسلم سلمت على الزما ... ن من الحوادث والعطب
فقال المأمون: احملوا إليه كلّ ما أهدي لنا في هذا اليوم!











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید