المنشورات

الحمية وقولهم فيها

قيل لبقراط: مالك تقل الأكل جدا؟
قال: إني إنما آكل لأحيا، وغيري يحيا ليأكل! وأجمعت الأطباء على أن رأس الداء كلّه إدخال الطعام على الطعام.
وقالوا: احذروا إدخال اللحم على اللحم؛ فإنه ربما قتل السباع في القفر.
وأكثر العلل كلها إنما يتولد من فضول الطعام.
والحمية مأخوذة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: رأى صهيبا يأكل تمرا وبه رمد، فقال «أتأكل تمرا وأنت أرمد؟» .
ودخل على عليّ رضي الله عنه وهو عليل، وبيده عنقود عنب، فنزعه من يده.
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيهم» .
وقيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء؟
قال: الأزم «1» .
يريد قلة الأكل، ومنه قيل للحمية: الأزمة، وللكثير أزمات.
وقيل لآخر: ما أفضل الدواء؟
قال: أن ترفع يدك عن الطعام وأنت تشتهيه.
أبو الأشهب عن أبي الحسن قال: قيل لسمرة بن جندب: إن ابنك إذا أكل طعاما كظّه «2» حتى كاد أن يقتله.
قال: لو مات ما صليت عليه!
عبد الملك ومدعو إلى غدائه:
ودعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء، فقال. ما فيّ فضل يا أمير المؤمنين.
قال: لا خير في الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل! فقال: يا أمير المؤمنين، عندي مستزاد، ولكن أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين.
وقال الأحنف بن قيس: جنّبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل يكون وصّافا لبطنه وفرجه.
وقيل لبعض الحكماء: أي الطعام أطيب؟
قال: الجوع؛ ما ألقيت إليه من شيء قبله.
وقال رجل من أهل الشام لرجل من أهل المدينة: عجبت منكم أن فقهاءكم أظرف من فقهائنا، ومجانينكم أظرف من مجانيننا! قال: أو تدري من أين ذلك؟
قال: لا أدري.
قال: من الجوع، ألا ترى أن العود إنما صفا صوته لما خلا جوفه!
الثوري في ابنه:
وقال الجاحظ: كان أبو عثمان الثوري يجلس ابنه معه ويقول له: إياك يا بنيّ ونهم الصبيان، وأخلاق النوائح، ونهش الأعراب؛ وكل مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة، أو مضغة شهيّة، أو شيء مستطرف، فإنما ذلك للشيخ المعظّم، أو للصبي المدلّل، ولست بواحد منهما، وقد قالوا: مد من اللحم كمد من الخمر.
أي بنيّ، عوّد نفسك الأثرة، ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال؛ فإن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة، وسرف البطنة؛ فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت نهما فعدّ نفسك من الزّمنى؛ واعلم أن الشّبع داعية البشم «1» ، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت؛ ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره.
أي بنيّ، والله ما أدّى حقّ الركوع والسجود ذو كظة، ولا خشع للَّه ذو بطنة، والصوم مصحّة، والوجبات «1» عيش الصالحين.
أي بنيّ، لأمر ما طالت أعمار الهند، وصحت أبدان العرب؛ وللَّه درّ الحارث بن كلدة إذ زعم أن الدواء هو الأزم، فالداء كله من فضول الطعام؛ فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة! أي بني، لم صار الضب أطول عمرا؟ إلا لأنه يتبلغ بالنسيم؛ ولم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الصوم وجاء «2» ؟ إلا لأنه جعله حجابا دون الشهوات؛ فافهم تأديب الله عز وجل، وتأديب رسوله عليه الصلاة والسلام.
أي بني، قد بلغت تسعين عاما ما نغضت لي سنّ، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين «3» أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول؛ ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد؛ فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا أبعد الله غيرك!










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید