المنشورات
تدبير الصحة
ثم نذكر بعد هذا من وصف الطعام وحالاته، وما يدخل على الناس من ضروب آفاته، بابا في تدبير الصحة الذي لا تقوم الأبدان إلا به، ولا تنمّى النفوس إلا عليه.
وقد قال الشافعي: العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان؛ ولم نجد بدّا- إذ كانت جملة هذه المطاعم التي بها نمو الغراسة «1» ، وعليها مدار الأغذية تضرّ في حالة وتنفع في أخرى- من ذكر ما ينفع منها ومقدار نفعه، وما يضرّ منها ومبلغ ضرّه؛ وأن نحكم على كل ضرب منها بالأغلب عليه من طبائعه.
وقلما نجد شيئا ينفع في حالة إلا وهو ضار في الأخرى؛ ألا ترى أن الغيث الذي جعله الله رحمة لخلقه، وحياة لأرضه، قد يكون منه السيول المهلكة، والخراب المخيف؟ وأن الرياح التي سخرها الله مبشرات بين يدي رحمته، قد أهلك بها قوما وانتقم من قوم؟ وفي هذا المعنى قال حبيب الطائي:
ولم تر نفعا عند من ليس ضائرا ... ولم تر ضرّا عند من ليس ينفع
قال خالد بن صفوان [يوما] لخادمه: أطعمنا جبنا، فإنه يشهّي الطعام، ويهيج المعدة، وهو حمض العرب. قال: ما عندنا منه شيء. فقال: لا بأس عليك، فإنه يقدح «2» الأسنان، ويشد البطن.
ولما كانت أبدان الناس دائبة التحلل، لما فيها من الحرارة الغريزية من داخل، وحرارة الهواء المحيط بها من خارج- احتاجت إلى أن يخلف عليها ما تحلل، واضطرت لذلك إلى الأطعمة والأشربة، وجعلت فيها قوة الشهوة ليعلم بها وقت الحاجة منها إليها، ومقدار ما يتناول منها، والنوع الذي يحتاج إليه؛ ولأنه لا يخلف الشيء الذي يتحلل ولا يقوم مقامه إلا مثله، وليس تستطيع القوة التي تحيل الطعام والشراب في بدن الإنسان أن تحيل إلا ما شاكل البدن وقاربه؛ فإذا كان هذا هكذا فلا بد لمن أراد حفظ الصحة أن يقصد لوجهين: أحدهما أن يدخل على البدن الأغذية الموافقة لما يتحلل منه، والأخرى أن ينفي عنه ما يتولد فيه من فضول الأغذية.
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
16 مايو 2024
تعليقات (0)