المنشورات

احتجاج المحلين للنبيذ كله

قال المحلّون لكل ما أسكر كثيره من النبيذ: إنما حرّمت الخمر بعينها، خمر العنب خاصة، بالكتاب، وهي معقولة مفهومة، لا يمتري «1» فيها أحد من المسلمين، وإنما حرمها اللَّه تعبّدا، لا لعلة الإسكار كما ذكرتم، ولا لأنها رجس كما زعمتم؛ ولو كان ذلك كذلك لما أحلها اللَّه للأنبياء المتقدمين، والأمم السالفين، ولا شربها نوح بعد خروجه من السفينة، ولا عيسى ليلة رفع، ولا شربها أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم في صدر الإسلام.
وأما قولكم إنها رجس، فقد صدقتم في اللفظ وغلطتم في المعنى؛ إذا كنتم أردتم أنها منتنة؛ فإن الخمر ليست منتنة، ولا قذرة ولا وصفها أحد بنتن ولا قذر وإنما جعلها اللَّه رجسا بالتحريم، كما جعل الزنا فاحشة ومقتا «2» ، أي معصية وإثما بالتحريم؛ وإنما هو جماع كجماع النكاح، وهو عن تراض وبذل، كما أن النكاح عن تراض وبذل؛ وقد يبذل في السفاح ما لا يبذل في النكاح؛ ولذلك سمّى اللَّه تبارك وتعالى المحرّمات كلها خبائث فقال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ
«1» ؛ وسمى المحلّلات كلها طيبات، فقال: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
«2» ؛ وسمى كل ما جاوز أمره أو قصر عنه سرفا، وإن اقتصد فيه.
وقد ذكر الخمر فيما امتنّ به على عباده قبل تحريمها. فقال تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً
«3» . ولو أنها رجس على ما تأولتم ما جعلها اللَّه في جنته وسماها لذة للشاربين. وإن قلتم إن خمر الجنة ليست كخمر الدنيا، لأن اللَّه نفى عنها عيوب خمر الدنيا فقال تعالى: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ
«4» ، فكذلك قوله في فاكهة الجنة: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ
«5» .
فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا، لأنها تأتي في وقت وتنقطع في وقت، ولأنها ممنوعة إلا بالثمن، ولها آفات كثيرة، وليس في فواكه الجنة آفة.
وما سمعنا أحدا وصف الخمر إلا بضد ما ذكرتم، من طيب النسيم، وذكاء الرائحة. وقال الأخطل:
كأنها المسك نهبى بين أرحلنا ... وقد تضوّع من ناجودها الجاري «6»
وقال آخر:
فتنفّست في البيت إذ مزجت ... كتنفّس الرّيحان في الأنف
وقال أبو نواس:
نحن نخفيها فيأبى ... طيب ريح فتفوح
.. وإنما قوله فيها رجس، كقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ
«1» أي كفرا إلى كفرهم.
وأما منافعها التي ذكرها اللَّه تعالى في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما
«2» فإنها كثيرة لا تحصى: فمنها أنها تدرّ الدم، وتقوّي المعدة، وتصفي اللون، وتبعث النشاط، وتفتق اللسان، ما أخذ منها بقدر الحاجة ولم يجاوز المقدار، فإذا جاوز ذلك عاد نفعها ضررا.
وقال ابن قتيبة في كتاب الأشربة: كانت بنو وائل تقول: الخمر حبيبة الروح، ولذلك اشتق لها اسم من الروح، فسميت راحا، وربما سميت روحا. وقال إبراهيم النظام:
ما زلت آخذ روح الدّنّ في لطف ... وأستبيح دما من غير مذبوح «3»
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والدّنّ مطّرح، جسم بلا روح
وقد تسمى دما، لأنها تزيد في الدم؛ قال مسلم بن الوليد الأنصاري:
مزجنا دما من كرمة بدمائنا ... فأظهر في الألوان منّا الدم الدم
قال ابن قتيبة: وحدّثني الرياشي أن عبيدا راوية الأعشى قال: سألت الأعشى عن قوله:
وسلافة مما تعتّق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها «4»
فقال: شربتها حمراء، وبلتها بيضاء. يريد أن حمرتها صارت دما.
ومن منافع الخمر أنها تزيد في القوّة، وتولد الحرارة، وتهيج الأنفة، وتسخّي البخيل، وتشجع الجبان.
قال حسان بن ثابت:
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء «1»
وقال طرفة:
وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كلّ أمون وطمرّ»
ثم راحو عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هدّاب الأزر
وقال مسلم بن الوليد:
تصدّ بنفس الخمر عما يغمّه ... وتنطق بالمعروف ألسنة البخل «3»
وقال الحسن بن هانىء:
إذا ما أتت دون الّلهاة من الفتى ... دعا همّه من صدره برحيل
ومن تسخيتها للبخيل المجبول قول بعض المحدثين:
كساني قميصا مرتين إذا انتشى ... وينزعه عني إذا كان صاحيا
فلي فرحة في سكره بقميصه ... وفي الصحو روعات تشيب النواصيا «4»
فيا ليت حظّي من سروري وترحتي ... ومن جوده ألّا عليّ ولا ليا «5»
قالوا: ولولا أن اللَّه تعالى حرّم الخمر في كتابه لكانت سيدة الأشربة؛ وما ظنك بشراب الشربة الثانية منه أطيب من الأولى، والثالثة أطيب من الثانية، حتى يؤدّيك إلى أرفق الأشياء وهو النوم؛ وكل شراب سواها فالشربة الأولى أطيب من الثانية، والثانية أطيب من الثالثة، حتى تمله وتكرهه!
وسقى قوم أعرابيا كئوسا، ثم قالوا: كيف تجدك؟ قال: أجدني أسرّ، وأجدكم تحبّبون إليّ.
وقالوا: ما حرّم اللَّه شيئا إلا عوّضنا ما هو خير منه أو مثله، وقد جعل اللَّه النبيذ عوضا من الخمر، نأخذ منه ما يطيب النفس، ويصفي اللون، ويهضم الطعام، ولا نبلغ منه إلى ما يذهب العقل، ويصدع الرأس، ويغثي النفس، ويشرك الخمر في آفاتها وعظيم خبائثها.
قالوا: وأما قولكم إن الخمر كلّ ما خمر، والنبيذ كله يخمّر فهو خمر، فإن الأسماء قد تتشاكل في بعض المعاني، فتسمى ببعضها لعلة فيها وهي في آخر، ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر؛ ألا ترى أن اللبن قد يخمرونه بروبة تلقى فيه، ولا بسمى خمرا؟ وأن العجين قد يخمر فيسمى خميرا ولا يسمى خمرا؟ وأن نقيع التمر يسمى سكرا لإسكاره، ولا يسمى غيره من النبيذ سكرا وإن كان مسكرا؟ وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحاط به؛ وقد رأيت اللبن يسكر إسكار كسكر النبيذ، ويقال: قوم ملبونون وقوم روبى، إذا شربوا الرائب فسكروا منه؛ وقال بشر بن أبي حازم:
فأما تميم تميم بن مرّ ... فألفاهم القوم روبى نياما
وأما قولكم: الرجل مخمور، وبه خمار، إذا أصابه صداع من الخمر؛ وقد يقال مثل ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ، فيقال: به خمار، ولا يقال به نباذ؛ فإن حجتنا في ذلك أن الخمار إنما يكون مما أسكر من النبيذ، وذلك حرام، لا فرق بينه وبين الخمر عندنا، فيقال فيه: ما يقال في الخمر، وإنما كان شربة «1» النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء والعشاء، ومما لا يعرض منه خمار.
وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر، فقال الأقيشر، وكان مغرما بالشراب:
وصبهاء جرجانية لم يطف بها ... حنيف، ولم تنغر بها ساعة قدر «2»
أتاني بها يحيي وقد نمت نومة ... وقد غارت الشّعرى وقد خفق النّسر «1»
فقلت اصطبحها أو لغيري فأهدها ... فما أنا بعد الشّيب ويلك والخمر!
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنكر عليه الذي أتى ... وإن جرّ أرسان الحياة له الدهر
فأعلمك أن الخمر هي التي لم تغل بها القدور.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید