المنشورات

المفاكهات

حديث عباس بن الأحنف
حدث أبو العباس محمد بن يزيد المبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي، وكان من سادات بكر بن وائل، وأدركته شيخا كبيرا مملقا، وكان إذا أفاد على إملاقه «3» شيئا جاد به، وقد كان قديما ولي شرطة البصرة، فحدثني هذا الحديث الذي أذكره، ووقع إليّ من غير ناحيته، ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان، إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك:
ذكر أن فتيانا كانوا مجتمعين في نظام واحد، كلهم ابن نعمة، وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه، فذكر ذاكر منهم قال:
كنا قد اكترينا «1» دارا شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس، وكنا نفلس أحيانا ونوسر أحيانا، على مقدار ما يمكن الواحد من أهله، وكنا لا ننكر أن تقع مئونتنا على واحد منا إذا أمكنه، ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء، فيقوم به أصحابه الدهر الأطول، وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه، ودعونا الملهين والملهيات، وكان جلوسنا في أسفل الدار، فإذا عدمنا الطرب جلسنا في غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس؛ وكنا لا نخلّ بالنبيذ في عسر ولا يسر؛ فإنا لكذلك يوما إذا بفتى يستأذن علينا، فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف، حلو الوجه، سريّ الهيئة، ينيء رواؤه «2» على أنه من أبناء النعم؛ فأقبل علينا فقال: إني سمعت مجتمعكم، وحسن منادمتكم! وصحة ألفتكم، حتى كأنكم أدرجتم جميعا فى قالب واحد: فأحببت أن أكون واحدا منكم فلا تحتشموا.
قال: وصادف ذلك منا إقتارا من القوت؛ وكثرة من النبيذ، وقد كان قال لغلام له: أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم، هات ما عندك. فغاب الغلام عنا غير كثير، ثم أتانا بسلّة خيزران، فيها طعام المطبخ، من جدي، ودجاج، وفراخ، ورقاق «3» ، وأشنان، ومحلب «4» ، وأخلة «5» ؛ فأصبنا من ذلك، ثم أفضنا في شرابنا.
وانبسط الرجل، فإذا هو أحلى خلق اللَّه إذا حدّث، وأحسنهم استماعا إذا حدّث، وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف؛ ثم أفضينا منه إلى أكرم مخالقة، وأجمل مساعدة؛ وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه، فيظهر لنا أنه لا يحب غيره، ويرى ذلك في إشراق وجهه؛ فكنا نغني به عن حسن الغناء، ونتدارس أخباره وآدابه؛ فشغلنا ذلك عن تعرّف اسمه ونسبه، فلم يكن منا إلا تعرّف الكنية، فإنا سألناه عنها فقال: أبو الفضل.
فقال لنا يوما بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم بم عرفتكم؟ قلنا: إنا لنحب ذلك.
قال: أحببت جارية في جواركم، وكانت سيدتها ذات حبائب «1» ؛ فكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها، فأراها؛ حتى أخلقّني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه، فسألت عن خبرها، فخبرت عن ائتلافكم وتمالئكم، ومساعدة بعضكم بعضا؛ فكان الدخول فيما أنتم فيه أسرّ عندي من الجارية. فسألناه عنها فخبرها، فقلنا له:
نحن نختدعها حتى نظفرك بها! فقال: يا إخواني، إني واللَّه على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها، ما قدّرت فيها حراما قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمنّ اللَّه بثروة فأشتريها! فأقام معنا شهرين، ونحن على غاية الاغتباط بقربه، والسرور بصحبته، إلى أن اختلس منا، فنالنا بفراقه ثكل ممضّ، ولوعة مؤلمة، ولم نعرف له منزلا نلتمسه فيه؛ فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به، وقبح عندنا ما كان حسن بقربه، وجعلنا لا نرى سرورا ولا غمّا إلا ما ذكرناه، لاتصال السرور بصحبته وحضوره، والغمّ بمفارقته؛ فكنا فيه كما قال الشاعر:
يذكّرنيهم كلّ خير رأيته ... وشرّ، فما أنفك منهم على ذكر
فغاب عنا زهاء عشرين يوما، فبينما نحن مجتازون يوما من الرصافة، إذا به قد طلع في موكب نبيل، وزيّ جليل، فلما بصر بنا انحط عن دابته وانحط غلمانه، ثم قال: يا إخواني، واللَّه ما هنأني عيش بعدكم، ولست أماطلكم بخبري حتى آتى المنزل، ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه، فقال: أعرّفكم أولا بنفسي، أنا العباس بن الأحنف؛ وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم؛ فإذا المسوّدة محيطة بي، فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين، فصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي:
ويحك يا عباس! إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء، لقرب مأخذك، وحسن تأتّيك! وإن الذي ندبتك له من شأنك؛ وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أنّ ماردة هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم، وأنه جرى بينهما عتب؛ فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك؛ وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستعزّه «1» الصبابة؛ فقل شعرا يسهّل عليه هذه السبيل.
فقضى كلامه.
ثم دعاني إلى أمير المؤمنين، فصرت إليه وأعطيت قرطاسا ودواة، فاعتراني الزّمع «2» وأذهب عني ما أريد الاستحثاث؛ فتعذرت عليّ كلّ عروض «3» ، ونفرت عني كل قافية؛ ثم انفتح لي شيء، والرسل تعنتني؛ فجاءتني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى، سهلة الألفاظ، ملائمة لما طلب مني؛ فقلت لأحد الرسل: أبلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات، فإن كان بها مقنع ووجهت بها. فرجع إليّ الرسول بأن هاتها، ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الرويّ، فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة، وعقّبت بالبيتين، فقلت:
العاشقان كلاهما متغضّب ... وكلاهما متوجّد متعتّب
صدّت مغاضبة وصد مغاضبا ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيّم قلما يتجنّب
إنّ التجنّب إن تطاول منكما ... دبّ السّلّو له فعزّ المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بدّ للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم «1»
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد، فدفعه إلى الرشيد، فقال: واللَّه ما رأيت شعرا أشبه بما نحن فيه من هذا، واللَّه لكأني قصدت به! فقال له يحيى: وأنت واللَّه يا أمير المؤمنين المقصود به؛ هذا يقوله العباس [ابن الأحنف] في هذه القصة، فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله:
راجع من يهوى على رغم
استغرب «2» ضاحكا حتى سمعت ضحكه، ثم قال: إي واللَّه، أراجع على رغم! يا غلام، هات نعلي. فنهض، وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء؛ فدعاني يحيى وقال:
إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة، وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما وقع مني بغاية الموافقة! ثم جاء غلام فسارّه، فنهض وثبت مكاني ثم نهضت بنهوضه؛ فقال لي: يا عباس، أمسيت أنبل الناس! أتدري ما سارّني به هذا الرسول؟ قلت لا. قال: ذكر لي أن ماردة تلقّت أمير المؤمنين لما علمت بمجئيه، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، كيف كان هذا؟ فناولها الشعر، وقال: هذا أتى بي إليك! قالت: فمن يقوله؟ قال: عباس بن الأحنف. قالت: فيم كوفىء؟ قال: ما فعلت شيئا بعد. قالت: إذا واللَّه لا أجلس حتى يكافأ! قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين، وهما يتناظران في صلتك، فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة! فقال: هذا أحسن من شعرك.
قال: فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير، وأمرت لي ماردة بمال دونه، وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به! وحملت على ما ترون من الظّهر! ثم قال الوزير: من تمام اليد عندك أن لا تخرج من الدار حتى يؤهل لك هذا المال ضياعا. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم، ودفع إليّ بقية المال.
فهذا الخبر الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضيّاع، وأفرق فيكم المال قلنا له: هنأك اللَّه، فكل منا يرجع إلى نعمة من أبيه. فأقسم وأقسمنا فقال:
[فتكونون] أسوتي فيه. فقلنا: أما هذه فنعم. قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبها، وكانت جارية جميلة حلوة، لا تحسن شيئا، أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار؛ فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة، فأجبناه بالعجب فحط مائة، ثم قال العباس: يا فتيان، إني واللَّه أحتشم أن أقول بعد ما قلتم، ولكنها حاجة في نفسي، بها يتم سروري، فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل قال هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر، وأريد إيثار نفسي بها؛ فأكره أن تنظر إليّ بعين من قد ماكس في ثمنها! دعوني أعطيه بها خمسمائة دينار كما سأل! قلنا له: وإنه قد حط مائتين. قال: وإن فعل. قال:
فصادفت من مولاها رجلا حرّا، فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين! فما زال إلينا محسنا حتى فرق الموت بيننا.
حديث المجرّد
قال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: واللَّه لأحدثنك حديثا ما سمعه مني أحد قط، وهو بأمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حيا. قلت: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها
«1» قال: يا أبا محمد إنه حديث ما طنّ في أذنك أعجب منه! قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت! قال: بينا أنا بسوق الكيل بمكة بعد أيام الموسم، إذ أنا بامرأة من نساء مكة، معها صبي يبكي، وهي تسكته فيأبى أن يسكت، فسفرت، فأخرجت من فيها كسرة درهم فدفعتها إلى الصبيّ فسكت؛ فإذا وجه رقيق كأنه كوكب درّي، وإذا شكل رطب ولسان فصيح؛ فلما رأتني أحدّ النظر إليها، قالت: اتبعني! فقلت: إن شريطتي الحلال! قالت: ارجع في حرامك! ومن يريديك على حرام؟ فخجلت، وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها، فدخلت زقاق العطارين فصعدت درجة وقالت: اصعد! فصعدت، فقالت: أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم، وأنا امرأة من زهرة! ولكن عندي حر ضيّق، عليه وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة؛ أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأشقر سليم. قلت: وما أشقر سليم؟ قالت: بدينار واحد يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجا صحيحا. قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت. قال: فصفقت بيدها إلى جاريتها، فاستجابت لها، قالت: قولي لفلانة: البسي عليك ثيابك وعجّلي، وباللَّه لا تمسّي غمرا «1» ولا طيبا، فحسبك بدلالك وعطرك.
قال: فإذا جارية أقبلت ما أحسب أن الشمس وقعت عليها، كأنها دمية، فسلمت وقعدت كالخجلة.
فقالت: لها الأولى: إن هذا الذي ذكرته لك، وهو في هذه الهيئة التي ترين.
قالت: حيّاه اللَّه وقرّب داره. قالت: وقد بذل لك من الصداق دينارا. فقالت: أي أمّ، أخبرتيه بشريطتي؟ قالت: لا واللَّه يا بنية، لقد نسيتها. ثم نظرت إليّ فغمزتني وقالت: أتدري ما شريطتها؟ قلت: لا. قالت: أقول لك بحضورها ما إخالها تكرهه، هي واللَّه أفتك من عمرو بن معد يكرب، وأشجع من ربيعة بن مكدّم، ولست بواصل إليها حتى تسكر وتغلب على عقلها، فإذا بلغت تلك الحال ففيها مطمع. قلت: ما أهون هذا وأسهله! قالت الجارية: وتركت شيئا آخر! قالت: نعم واللَّه، أعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها، وتراك مجرّدا مقبلا ومدبرا. قلت: وهذا أيضا أفعله! قالت: هلمّ دينارك! فأخرجت دينارا فنبذته إليها؛ فصفقت صفقة أخرى، فأجابتها امرأة؛قالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلمّا الساعة! فقلت في نفسي: أبو الحسن وأبو الحسين، هو عليّ بن أبي طالب! قال: فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا، فصعدا، فقصت المرأة عليهما القصة، فخطب أحدهما وأجاب الآخر، وأقررت بالتزويج وأقرّت المرأة؛ فدعوا بالبركة ثم نهضا، فاستحييت أن أحمّل المرأة شيئا من المئونة، فأخرجت دينارا آخر فدفعته إليها، وقلت: اجعلي هذا لطيبك. قالت: يا أخي، لست ممن يمسّ طيبا لرجل، إنما أتطيّب لنفسي إذا خلوت. قلت: فاجعلي هذا لغدائنا اليوم. قالت: أما هذا فنعم.
فنهضت الجارية، وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت، وتغدّينا، وجاءت بأداة وقضيب، وقعدت تجاهي؛ ودعت بنبيذ فأعدّته، واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط، فإني ألفت القينات نحوا من ثلاثين سنة، ما سمعت مثل ترنّمها قط؛ فكدت أجنّ سرورا وطربا، فجعلت أريغ «1» أن تدنو مني فتأبى، إلى أن غنّت بشعر لم أعرفه، وهو:
راحوا يصيدون الظّباء، وإنني ... لأرى تصيّدها عليّ حراما!
أعزز عليّ بأن أروّع شبهها ... أو أن تذوق على يديّ حماما!
فقلت: جعلت فداك! من يغنّي هذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج وابن عائشة ...
فلما نعي إلينا النهار وجاءت المغرب، تغنّت بصوت لم أفهمه، للشقاء الذي كتب عليّ، فقالت:
كأني بالمجرّد قد علته ... نعال القوم أو خشب السواري «2»
قلت: جعلت فداك! ما أفهم هذا البيت ولا أحسبه مما يتغنى به. قالت: أنا أوّل من تغنى به. قلت: فإنما وهو بيت عابر لا صاحب له؟ قالت: معه آخر ليس هذا وقته، هو آخر ما أتغنى به؟
قال: وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالا لها، فلما أمسينا وصلينا المغرب وجاءت العشاء الأخيرة، وضعت القضيب، فقمت فصليت العشاء وما أدري كم صليت، عجلة وشوقا؛ فلما صليت قلت: تأذنين جعلت فداك في الدنوّ منك؟ قالت: تجرّد! وأشارت إلى ثيابها كأنها تريد أن تتجرّد؛ فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها؛ فتجرّدت وقمت بين يديها مكفّرا لها؛ قالت: امض الى زاوية البيت وأقبل وأدبر، حتى أراك مقبلا ومدبرا.
قال: وإذا حصير في الغرفة، عليه طريق إلى زاوية البيت، فخطرت عليه، وإذا تحته خرق «1» إلى السوق، فإذا أنا في السوق قائما مجرّدا منعظا «2» ! وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا لي نعالهما، وكمنا لي في ناحية، فلما هبطت عليهما بادرا إليّ فقطعا نعالهما «3» على قفاي، واستعانا بأهل السوق؛ فضربت واللَّه يا أبا محمد حتى نسيت اسمي؛ فبينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد شديدة، إذا صوت يغنّي به من فوق البيت، وهو:
ولو علم المجرّد ما أردنا ... لحاربنا المجرّد بالصحاري
فقلت في نفسي: هذا واللَّه وقت هذا البيت! فنجوت إلى رحلي وما فيّ عظم صحيح؛ فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب! فقلت: لعنها اللَّه ولعن الذي هي منه!
يوم دارة جلجل
قال الفرزدق: أصابنا بالبصرة ليلا مطر جود، فلما أصبحت ركبت بغلتي وسرت إلى المربد، فإذا أنا بآثار دواب وقد خرجت إلى ناحية البرية، فظننت أنهم قوم خرجوا للنزهة، وهم خلقاء أن يكون معهم سفرة، فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغال عليهم رحائل موقوفة على غدير، فأسرعت إلى الغدير، فإذا فيه نسوة مستنقعات في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط، ولا يوم دارة جلجل. وانصرفت مستحييا.
فنادينني: يا صاحب البغلة، ارجع نسألك عن شيء.
فرجعت إليهنّ، فقعدن في الماء إلى حلوقهن، ثم قلن: باللَّه إلا ما أخبرتنا ما كان من حديث دارة جلجل.
قلت: حدثني جدّي- أنا يومئذ غلام حافظ- أن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عمه، ويقال لها عنيزة؛ وأنه طلبها زمانا فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل؛ وذلك أنّ الحيّ تحمّلوا، فتقدم الرجال، وتخلف النساء والخدم والثقل «1» ؛ فلما رأى ذلك امرؤ القيس، تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة، فكمن في غيابة من الأرض، حتى مرّ به النساء وفيهنّ عنيزة، فلما وردن الغدير قلن:
لو نزلنا واغتسلنا في هذا الغدير فذهب عنا بعض الكلال. فنزلن في الغدير، ونحيّن العبيد، ثم تجرّدن فوقعن فيه، فأتاهنّ امرؤ القيس فأخذ ثيابهنّ، فجمعها وقعد عليها، وقال: واللَّه لا أعطي جارية منكنّ ثوبها ولو قعدت في الغدير يومها، حتى تخرج متجرّدة فتأخذ ثوبها! فأبين ذلك عليه، حتى تعالى النهار وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه، فخرجن جميعا غير عنيزة؛ فناشدته اللَّه أن يطرح ثوبها، فأبى، فخرجت؛ فنظر إليها مقبلة ومدبرة.
وأقبلن عليه فقلن له: إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا! قال: فإن نحرت لكنّ ناقتي أتأكلن معي؟ قلن: نعم، فجرّد سيفه فعرقبها ونحرها، ثم كشطها، وجمع الخدم حطبا كثيرا، فأجّجن نارا عظيمة، فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر، ويأكلن ويأكل معهنّ، ويشرب من فضلة كانت معه ويسقيهنّ، وينبذ إلى العبيد من الكباب.
فما أرادوا الرحيل قالت إحداهنّ: أنا أحمل طنفسته «2» . وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله وأنساعه»
. فتقسّمن متاعه وزاده؛ وبقيت عنيزة لم تحمل له شيئا؛ فقال لها: يا بنت الكرام، لا بد أن تحمليني معك؛ فإني لا أطيق المشي، فحملته على غارب «2» بعيرها، فكان يجنح إليها فيدخل رأسة في خدرها فيقبّلها، فإذا امتنعت مال حدجها «3» ، فتقول: عقرت بعيري فانزل! ففي ذلك يقول:
[ألا ربّ يوم لي من البيض صالح ... ولا سيّما يوم بدارة جلجل]
ويوم عقرت للعذارى مطّيتي ... فيا عجبنا من رحلها المتحمّل
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهدّاب الدّمقس المفتّل.
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل «4»
فقلت لها سيري وأرخي زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلّل
وكان الفرزدق أروى الناس لأخبار امرىء القيس وأشعاره، وذلك أنّ امرأ القيس رأى من أبيه جفوة، فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث، وكان مسترضعا في بني دارم فأقام فيهم، وهم رهط الفرزدق.
خبر دعبل وصريع الغواني
حدثنا أبو سويد بن أبي عتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينا أنا ذات يوم بباب الكرخ وأنا سائر، وقد احتوى الفكر على قلبي في أبيات شعر قد نطق بها اللسان من غير اعتقاد جنان، فقلت:
دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني به انقباض
فإذا أنا بجارية فائقة الجمال حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف؛ لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر:
كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة ... في كل جارحة منها لها قمر 
وهي تسمعني، فقالت:
هذا قليل لمن دهته ... بلحظها الأعين المراض
فأجبتها:
فهل لمولاي عطف قلب ... أو للّذي في الحشا انقراض؟
فأجابتني فقالت:
إن كنت تبغي الوداد منّا ... فالودّ في ديننا قراض «1»
قال دعبل: فلم أعلمني [قبلها] خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها، مع تلاعة جيد «2» ، ورشاقة قدّ، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق؛ فحار واللَّه البصر، وذهب اللّب، وجل الخطب، وتلجلج اللسان، وتغللت الرّجلان؛ وما ظنك بالحلفاء «3» إذا دنت من النار؟ ثم ثاب إليّ عقلي، وراجعني حلمي، فذكرت قول بشار:
لا يمنعنّك من مخدّرة ... قول تغلّظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصّعب يمكن بعدما جمحا «4»
هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه، فكيف بمن وعد قبل المسألة، وبذل قبل الطلبة؟ فقلت مسمعا لها:
أترى الزمان يسرنّا بتلاق ... ويضم مشتاقا إلى مشتاق؟
فقالت مجيبة لي في أسرع من نفس:
ما للزّمان يقال فيه وإنما ... أنت الزمان فسرّنا بتلاق!
قال دعبل: فلحظتها ومضيت وتبعتني، وذلك في أيام إملاقي، فقلت: مالي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فسرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج: فقلت له: اكمل الخير، معي وجه صبيح، يعدل الدنيا بما فيها، وقد حصل على ضيقة وعسر! فقال: قد شكوت ما كدت أباديك بشكواه! ائت بها. فلما دخلت قال: واللَّه لا أملك غير هذا المنديل! فقلت: هو البغية فناولنيه. فقال: خذه لا بارك اللَّه لك فيه! فأخذته، فبعته بدينار وكسر، فاشتريت لحما وخبزا ونبيذا، وصرت إليه: فإذا هما يتساقطان حديثا كأنه قطع الروض المعطور؛ قال: ما صنعت؟ فأخبرته؛ قال:
كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟
اذهب فالطف لتمام ما كنت أوّله.
قال: فخرجت فاضطربت في ذلك حتى اتيت به، فألفيت باب الدار مفتوحا، فدخلت؛ فإذا لا يرى لهما ولا لشيء مما أتيت به أثر، فسقط «1» في يدي، وقلت:
أرى صاحب الربع أخذهما! فبقيت متلهفا حائرا، أرجم الظنون وأجيل الفكر سائر يومي؛ فلما أمسيت قلت في نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقفني على أثر؟ ففعلت، فوقفت على باب سرداب له، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه، فأكلا وشربا وتنعّما؛ فلما أحسستهما دليت رأسي ثم ناديت:
مسلم! ويلك! فلم يجبني، حتى ناديت ثلاثا؛ فكان من إجابته لي أن غرّد بصوت يقول فيه:
بتّ في درعها وبات رفيقي ... جنب القلب طاهر الأطراف «2»
ثم قال: دعبل، ويلك! من يقول هذا؟ قلت:
من له من حر امّه ألف قرن ... قد أنافت على علوّ مناف «3»
قال: فضحك، ثم سكتا، واستجلبت كلامهما فلم يجيباني، وأخذا في لذتهما، وبتّ بليلة يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولا وغما! حتى إذا أصبحت ولم أكد، خرج إليّ مسلم، فجعلت أؤنبه، فقال لي: يا صفيق الوجه! منزلي، ومنديلي، وطعامي، وشرابي؛ فما شأنك في الوسط؟ قلت له: حقّ القيادة والفضول واللَّه لا غير! فولى وجهه إليها وقال: بحياتي إلا أعطيتيه حق قيادته وفضوله! قالت: أما حق قيادته فعرك أذنه، وأما حق فضوله فصفع قفاه! فاستقبلني مسلم فعرك أذني وصفعني، فقلت: ما هذا؟ فقال: جرى الحكم عليك بما جرى لك من العذل والاستحقاق!











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید