المنشورات
المقامة الصعيدية
أخبر سهيل بن عباد قال: دخلت مجلس قاضي الصعيد، وقد جلس للتهنئة بالعيد. فبينما دنوت إليه، وسلمت عليه. دخلت امرأة غضة، كأنها برج فضة. وقالت: السلام عليك أيها المولى، ولا زلت بالكرامة أولى فأحسن رد السلام، وقال: ما وراءك يا عصام؟ قالت: إنني امرأة من كرائم العقائل، وكرام القبائل. قد خطبني إلى والدتي العجوز، رجل يدعي أنه من أصحاب الكنوز. وقد جعل كل ماله لي وقفاً، وصرفني في بيته عيناً ووصفاً. فلما حضرت إلى بيته وجدته كبيت العنكبوت، لا شيء فيه من الأناث والقوت. وهو قد أمسكني جبراً، وكلفني ما لا أستطيع عليه صبراً. فمره إن شئت بالإنفاق، وإلا فالطلاق. فأشار القاضي إلى الغلام بإحضاره، والمرأة دليلة له في آثاره. فما كان إلا كقراءة هل أتى، حتى عادت المرأة والفتى. وبين أيديهما رجل طويل القامة، كبير العمامة. فتقدم إلى القاضي وهو يقول: أيد الله الجالس على بساط الرسول. قال: أيد الله الحق المبين، وعصمنا وإياك بحبله المتين. ما تقول في دعوى هذه الجارية؟ وما أدراك ما هيه. قال: هي فرية وسوس بها إليها الشيطان، ومرية ما أنزل الله بها من سلطان. قال: فادفع عن نفسك بالتي هي أحسن، ولا تجادل في أشياء إن تبد لك تسوؤك فتحزن. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم أشار إلى القاضي وأنشد بصوت رخيم:
أنا أبو ليلى أخو العجاج ... وصاحب الأرجاز والاحاجي
عندي من العلم لدى المناجي ... كنز، ومن مطارف الديباج
ما ليس من صناعة النساج، ... لكنني من قلة الرواج
قد اشتريت دملجاً عن عاج ... بدرهم كالقمر الوهاج
كنت أصونه إلى احتياج ... إذ لم أكن لغيره براج
فذاك مالي، يا أبا فراج، ... جعلته في يد بنت الناجي
وقفاً لها، فلست بالمداجي ... وهي على بيتي كالحجاج
تحكم في الإدخال والإخراج ... من غير عرضة ولا حجاج
مصونة في أحصن الأبراج ... آمنة من طارق مفاج
مرتاحة من كل ذي إزعاج ... لا تحمل الزيت إلى السراج
ولا تعاني الرحض للسناج ... وطاجن الفالوذ والسكباج
وعرن الكباش والنعاج ... فلم تزل صحيحة المزاج
نقية من وضر الأمشاج ... غنية عن خطر العلاج
والمرء لا يرضى ولو بالتاج
قال: وكان المجلس حافلاً بأهل العيد، ومزدحماً بالأحرار والعبيد. فعجبوا من بداهة الرجل وفكاهته، ونزهة لفظه ونزاهته. وقالوا: ما نراه أخطأ في الدعوى، لكنها أخطأت في الفجوى. فليجبر قلبها كل واحد بدينار، ولنجعلها زكاة عيد الإفطار. ثم حصبها كل بدينار حسب وعده، وقالوا لها: أنفقي مما رزقك الله حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده. فاستشاط الرجل وقال: أراكم قد أمرتموها بالإنفاق فقد جعلتموها لي بعلاً، وجعلتموني لها أهلاً. فلا تلبث أن تقول: قد استنوق الجمل، وتطلقني البتات لعكس العمل. قالوا: لله درك أيها الجندلة، فما تقول في المسألة؟ قال: قد رأيتم في الكتاب رأي العين، أن للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن أحسنتم فإليكم، وإلا فكتاب الله عليكم. قالوا: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فقد أحسنت وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. فاشرأب الرجل واستطال، وأقبل على القاضي وقال:
إن أخطأت جارية في الفهم ... لا يخطئ القاضي المتين العلم
في فهم شكواي وفرض السهم
فقال القاضي: شهد الذي أخرج المرعى، أنك تريد أن تلسع الأفعى. فخذ هذه الجدوى، على أن لا تحضرني بدعوى. فلما أحرز الرجل ما أعطاه، برزت المرأة كالسعلاة. وقالت: أيد الله القاضي إن الدعوى من قبلي، فقد كان ذلك لي. فأطرق القاضي إطراق المشفق، وقال: إن البلاء موكل بالمنطق. ثم قال الشرطي: إني أراهما يتداولان مكر الليل والنهار، ويصلان الدرهم بالدينار. فخذهما بهذه السفتجة، واكفني كربة الحشرجة، وأربة السمرجة. قال سهيل: ولما أراد الرجل الخروج عطف إلي، وقد أغمض إحدى عينيه لتخفى معرفته علي. وقال: أعيذك بالله أن لا تكون من الناس، فإن اعتذرت فلا باس. قلت: ليس معي إلا دينار واحد فاقتسماه، وإلا فنظرة إلى ميسرة من رزق الله. قال: نعم ولكن إذ تخلصت قائبة من قوب، فإياك مطل عرقوب. ثم خرج فانطلقت في أثره، لأقف على كنه خبره. فلما أبعد عن دار القضاء، واقتضى سفتجته البيضاء، فتح الشعرى الغميضاء. فإذا هو صاحبنا ميمون بعينه، وقد انتفض العور من عينه. فابتهجت بمرآه، وابتهجت بملتقاه. وقلت له: ما خطبك وهذه الجارية، ومتى تزوجت في البادية؟ قال: هي في البيت ابنتي، وفي المحكمة زوجتي. ثم أنشد:
خبث الدهر، فصارت ... أنفس الناس بخيله
وإذا حالك ساءت، ... فليكن عندك حيله
ثم غمز بأناملة مرفقي، وقبل مفرقي، وقال: أستودعك الله إلى أن نلتقي.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)