المنشورات
المقامة الخزرجية
قال سهيل بن عباد: دخلت بلاد العرب، في التماس بعض الأرب.
فقصدت نادي الأوس والخزرج، لأتفرج وأتخرج، وآخذ من ألسنتهم بعض المنهج. فلما صرت في بهرة النادي، أخذ بمجامع فؤادي. فجلست بين القوم ساعة، وأنا أحدق إلى الجماعة. وإذا شيخنا ميمون بن خزام، قد تصدر في ذلك المقام. وهو يقول: من أراد أن يعرف جهينة، أو شاعر مزينة. فليحضر ليسمع ويرى=فإن كل الصيد في جوف الفرا. فعمد إليه رجل وقال: أطرق كرى، إن النعامة في القرى. فقال الشيخ: كل فتاة بأبيها معجبة، فكن سائلاً أو مسؤولاً لنرى ما في القداح من الأنصبة. قال: إنما يسأل العالم، فما هي أسماء المطاعم؟ قال: لبيك وسعديك! وأنشد كهزار الأيك:
للنفساء الخرس والعقيقه ... للطفل عند عارف الحقيقة
كذلك الإعذار للختان ... وذو الحذاق حافظ القرآن
للخطبة الملاك والوليمة ... للعرس والميت له الوضيمه
وللبناء جعلوا الوكيره ... ولهلال رجب العقيره
وقيل تحفة لزائر يرد ... وشندخ لما يضل إذ وجد
كذا نقيعه القدوم من سفر ... ثم القرى للضيف عندما حضر
وحيثما لم يك من ذاك سبب ... فإنها مأدبة عند العرب
وإن تعم دعوة فالجفلى ... تدعى وإن خصت فتلك النقرى
قال: أحسنت يا ضريب الضرب، فما هي نيران العرب؟ فأنشد:
أول نار عندهم نار القرى ... وذكر نار الوسم بعدها جرى
ونار الاستسقاء والتحالف ... والصيد والحرب لدى التزاحف
ونار غدر وسلامة تعد ... ونار راحل كذا نار الأسد
والنار للسليم والفداء ... فجملة النيران هؤلاء
قال: أعتقك الله من النار! فهل تعرف ساعات النهار؟ فأنشد:
أول ساعة من النهار ... هي البكور والبزوغ طار
والرأد والضحى المتوع بعد ... ظهيرة ثم الزوال عدوا
فالعصر فالأصيل ثم الطفل ... وبالحدور والغروب تكمل
قال: قد أسبغت الذيل، فهل تعرف ساعات الليل؟ فأنشد:
أول ساعة من الليل الشفق ... وبعدها العشوة يتلوها الغسق
فهدأةٌ ثمت شرعٌ ثم قل ... جنح وزلفة هزيع يا رجل
وبعد ذاك غبش وسحر ... والفجر والصبح الذي ينفجر
قال: قد درأت الشبهات، فهل تعرف رياح الجهات؟ فأنشد:
ما هب من شرق فذلك الصبا ... ثم الجنوب عن يمين ذهبا
ثم الشمال والدبور، وجرت ... نكباء بين كل ريحين سرت
فذلك الأزيب ثم الصابيه، ... فالهيف ثم الجربياء آتية
قال: قد جلوت الرموز، وفتحت الكنوز، فهل تعرف أيام برد العجوز؟ فأنشد:
صن وصنبر ووبر يذكر ... وبعده الآمر والمؤتمر
كذا معلل ومطفي الجمر ... هاتيك أيام العجوز فادر
قال: حييت يا قطب للعراق، فما أسماء خيل السباق؟ فأنشد:
أول سابق هو المجلي ... ثم المصلي بعده المسلي
تال ومرتاح عليه يقبل ... والعاطف الحظي والمؤمل
كذلك اللطيم والسكيت ... فاحفظ فما أعطيت قد أعطيت
قال: لله درك! لقد جمعت فأوعيت، وقدحت فأوريت. فإن شئت فسل، قال: أجل، ولكن خلق الإنسان من عجل. فإن أبطأت في الجواب فلي عليك ناقة حمراء، وعلى قومك فرس غراء. قال: هات وبالله التوفيق، إلى سواء الطريق. فقال: ما هي برق العرب المذكورة وداراتها المشهورة؟ فضاق الرجل ذرعاً في الجواب، وقال: اللهم اهدنا صراط الحق والصواب. ثم قال: قد وجبت راحلة الشيخ علينا، ليسهل وفده إلينا. فقال الشيخ: قد علمتم يا قوم أن لخير معقود بنواصي الخيل، وهي التي ينجو بها الوافد من جوارح النهار وطوارق الليل. قالوا: كلاهما وتمراً، فقد فرضنا لكل بيت صلة أخرى، على أن تكتبها لنا سطراً فسطراً. ففعل وقال: الشرط أملك، عليك أم لك. فجاؤوا بناقة وجناء وفرس كميت، وشاة لكل بيت. فأنكر الشيخ الشويهات، قد اذخرت شيئاً فأنشده لنجيزه سريعاً. فضحك الشيخ على الأثر، وقال أريها الشهى وتريني القمر. إن هذه الأبيات مشطورة توهم الأنصاف، لكنها تحسب أبياتاً عند الإنصاف، وإلا لما جاز في قوافيها ما رأيتم من الخلاف. فإن تمسكتم بالعروة الوثقى، وإلا فالله خير وأبقى. فقالوا: لله درك ما أقواك في الحجة، وأهداك إلى المحجة! وقد رضينا بما حكمت، فخذ ما احتكمت. قال: فاعتمد على عصاه وقال: رب ثبت قدمي، واشد عصاي التي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي. ثم أشار إلى المشهد وأنشد:
من كان يبغي السير في المنهج ... فليأت نادي الأوس والخزرج
يلق الغطاريف الألى همهم ... رب القنا لا ربة الهودج
يدكون نيران القرى في الدجى ... وينحرون الكوم في السجسج
إذا دعا الداعي استقامت له ... خيل نسبناها إلى أعوج
فقد جزيناهم بما ذكره ... يبقى بقاء الجبل الأصلج
فقالوا: قد تفضلت علينا في الثناء، فلك اليد البيضاء. وهذه نفقة لسفرك، فسر مسروراً بظفرك. قال: فلما فصل عن النادي، قفوته إلى الوادي. وقلت له: هنياً مرياً، لقد جئت شيئاً فرياً. فأنى لك هذا السجال، وكيف أجبت كل سؤال بالارتجال؟ قال: يا ابن أخي الحق أولى أن يقال. شهدت سوق عكاظ، وتخللت تلك الأوشاظ، فسمعتهم يتناشدون القطعة والبيت،ويتذاكرون من كيت وذيت. فالتقطت منهم ما التقطت، وسقطت به على من سقطت. ثم أشار إلي بعصاه، وأنشد وهو يسوق الشياه:
ترى عيني تقر وعين ليلى ... تراقب عودتي حيناً فحينا
تُسائِلُ عن أبيها كل ركب ... فلا تدري له خبراً يقيناً
نذرت لها الفراهيد اللواتي ... أعود بها وأحرجت اليمينا
تضيف بها بنات الحي يوماً ... كما قد كنت أصنع للبنينا
ولما فرغ من إنشاده، تمطى في بداده، على جواده، ثم ودعني وانطلق، وأودعني القلق. فأتبعته عيني إلى أن غاب، ورجعت أستمطر له السحاب.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)