المنشورات
المقامة البغدادية
قال سهيل بن عباد: حللت بالزوراء في بعض الأسفار، وأنا غريب الدار، بعيد المزار، فكنت أتردد فيها سحابة النهار، وأتفقد ما بها من المشاهد والآثار. حتى دخلت يوماً بعض المدارس، وإذا شيخنا الخزامي هناك جالس. والطلبة قد أقبلوا عليه، وأحدقوا به وإليه. فسلمت عليه تسليم المشوق، وابتهجت به ابتهاج العاشق بلقاء المعشوق. وجلسنا نتشاكى النوى، ونتباكى للجوى.. وإذا امرأة تنادي يا شاري اللبن، الرخيص الثمن. وهي في أثناء الكلام، تتلاعب في الإعراب على الثلاثة الأحكام. فعجبوا لافتنانها، وتاقت أنفسهم إلى استنباط بيانها.
فدعتها ألسنتهم للشراء، وأفئدتهم للمراء. فجاءت حتى وقفت بالباب، وأرسلت النقاب، وقال: السلام يا أهل الكتاب، قالوا: سلام يا كريمة الأعراب! فما بالك تلحنين في الإعراب؟ قالت: أما سمعتم أن خير الكلام ما كان لحناً، أو لم تيأسوا أن الكتاب قد أقام له وزناً؟ قالوا: أعييتني بأشر، فكيف بدردر؟ إن كنت ممن يفسر الماء بالماء، فما نحن ممن يستجير بالنار من الرمضاء. قالت: شهد من رفع القبة الخضراء، أني ما جئتكم إلا بالحنيفية البيضاء. لكنكم تشترون در الضوامر، وتستوهبون در الضمائر. فلما رأوا منها دهاء لقمان بن عاد، علموا أنها صخرة واد. فرضخ كل لها بدرهم، وقالوا: إن أعربت عن المعجم، نفحناك بالمشوف المعلم. قال: والشيخ بين ذلك يقلب وجهه في السماء، ويقول: سبحان من علم آدم الأسماء. فلما جلت المكنون، واجتلت الموزون. قال: يا أولي الألباب، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. وإلا ففوق كل ذي علم عليم،وإن الفضل بيد الله يؤيته من يشاء والله ذو الفضل العظيم. قالوا: إن هذا لهو الحق المبين، فأت بآية من مثل ذلك إن كنت من الصادقين. قال: قد جاء من أمثال ذلك في كلام القوم، قولهم: لا صمت يوم. فإن شئتم ما فوقه من تصاريف العرب، فقولهم: هذا يسر أطيب منه رطب. فإن استزدتم فقولهم في المثل: لا ناقة لي في هذا ولا جمل. قال: وما فرغ الشيخ من الكلام، حتى ابتدر القيام. فتعلقوا به وقالوا: لات حين مناص، فإن دواء الشق أن يحاص. ولقد أتيت من حيث أيس، فلا تذهب من حيث ليس. فعاد إلى المقام، وقال صبراً: على مجامر الكرام. ثم اندفع في شرحه كاليعبوب، حتى ملأ العيون والقلوب، فانهالت عليه الجوائز حتى لم تبق حاجة في نفس يعقوب. ولما قضى الوطر، نهض على الأثر، فقام القوم يودعونه، وهم يودون لو يتبعونه. وقالوا: بأنفسنا نفديك! لقد سعد بك ناديك، فلا تجعلها بيضة الديك. قال: نعم لي صبي ليس كمثله في بغذاذ، أريد أن أجره يوماً إلى الأستاذ. قالوا: نراك قد جررته مذ الآن، فهل تفيدنا بشيء من البيان؟ قال: إذا عدنا، أفدنا. لكنني لا أرى لقاء مثله من ذوي الشان، حتى يستر أطماري الطيلسان. قال سهيل: ولم يكن بعد انصرافه إلا كلمح البصر، حتى دخل الأستاذ فأطرفوه بالخبر. فقال: صبر جميل، نام عصام ساعة الرحيل، والله حسبي ونعم الوكيل. ثم ألقى بطيلسانه إلي وقال: هل لك أن تلقاه به فترده علي فقرعت الساق حتى أدركته بالسوق، وأبلغته سياق الخبر المسوق. فقال: إن ليلى قد فصلت عن مجلسنا المعهود، ولنا موعد أنتظرها به أن تعود، فإذا لقيت الأستاذ فقل له المعذرة، وإن غداً لناظره قريب فمن يعش يره. قلت: أوهي ذات اللبن قال: إن لم تكن فمن قلت:
إنها لنعم البنية! قال: وإن العصا من العصية. ثم جلس على عرفة هناك، وجعل يقلب طرفه بين هذا وذاك. فلما طال أمد الانتظار قال: أظنها تنتظرني في الدار. فهل لك أن تصحبني إلى الرصافة، وتؤنسني الليلة بالضيافة فقلت: إني على ما تريد، وسرنا وهو يقول: أسعد أم سعيد، حتى انتهينا إلى باب حديد، وإذا ليلى بالوصيد. فلما رآها تهلل وجهه بشراً، وأنشد يقول شعراً:
حييت يا ليلى ابنة الخزام ... كريمة الأخوال والأعمام
أصبحت في مدينة السلام ... غريبة الموطن والكلام!
ما زلت لي عوناً على الأيام ... تمهدين سبلي أمامي
وتنفرين الصيد في الآجام ... حتى يكون غرض السهام
وإن كنت من ربائب الخيام ... فالسر في الشراب لا في الجام
رب ابنة أنفع من غلام
قال: ولما فرغ من أبياته أدخلنا إلى البيت، وأفاض في حديث أشهى من حلبة الكميت. فبتناها ليلة كأنها ليلة القدر وأحييناها بالحديث حتى مطلع الفجر ومازلنا كذلك حتى فرق بيننا الدهر.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)