المنشورات

المقامة الصورية

قال سهيل بن عباد: لفظتني الثغور إلى مدينة صور، فحللتها شهراً أجرد، في سنة جرداء، وكنت يومئذ فتى أمرد، فطفت كل شجراء ومرداء، حتى دخلت يوماً إلى حديقة في إبان وديقة. وإذا القاضي جالس على قطيفة كأنه الإمام أبو حنيفة. فبينما طارحته تحية الأدباء، وأخذت مجلساً على تلك الحصباء.
إذ دخلت امرأة سادلة القناع، سابغة اللفاع، فاسترعت السماع، وقالت:
يا قاضي العدل الكريم المنصفا ... إن أبي في جوره قد أسرفا!
أقعدني عن الزواج عنفا ... وليس يكفيني لو تقشفا
فانظر لنا حكماً إلى الله صفا ... أولا، فإن الله حسبي وكفى!
قال: وكانت بين ذلك تخطر كالسمهري، وتفتن في إنشادها كالبحتري. ففتنت بافتنانها من حضر، واستهوت القاضي فجعل يخالسها النظر. فلما فرغت من إنشادها أطرق إطراق المرتاب، وقال: شر أهر ذا ناب، فمن هذا الظالم الذي لا يعرف السنة والكتاب؟ قالت: هو شيخ يفن، قد صار جلده كالسفن، يضمني إلى أضلاع له كالنعش فتعشاني لحيته كالكفن. ولقد خطبني كرام الأصهار، فأبى إلا أن أكون منه معقد الإزار. وهو فقير يتمنى الفلس، وتغلبه عزة النفس. فيعتفد، ولا يسترفد. ويذوب غليلاً، ولا يستقي خليلاً. ويغضي على القذى، ولا يشكو الأذى. ويتبلغ بالثويناء، على الهويناء. ويقنع من الشراب، بالسراب. فتراه يكظم الغيظ، ويتبرد بالقيظ، ويرضى من البيض بالبيظ. وأنا فتاة غضة الشباب، لا تشبعني كشى الضباب ولا أرضى بخلق الجلباب. ولطالما حرصت على بره فطويته على غره، وكلفت نفسي كتم سره. حتى صرت أهزل من الجوزل، وأجوع من كلة حومل. فاعتبر ما جرى، واحكم بما ترى. فأكبر القاضي شكواها، وأوى لبلواها. وقال: يا أمة الله صبراً! فإن مع العسر يسراً، وما أتم كلامه إلا وأبوها قد أقبل، وقال: يا مولاي لا تكن كقاضي جبل. وأنشد:
ما كذبت وما بها من عار! ... لكن ذاك ليس باختياري
فإنها من أحسن الجواري ... بديعة في أعين النظار!
كالشمس في رائعة النهار ... فصنتها كدرة البحار!
حتى أرى كفأ من الأصهار ... وإنني شيخ غريب الدار
صفر من الدرهم والدينار ... أنتظر العفو من الأحرار
وأحسن الصبر على الأقدار ... فاحكم بما ترى ولا تمار!
ولما فرغ الشيخ من أبياته قال: شهد الله أن موت الذليل خير من حياته. وأنني قد كنت نشبة، فضرت عقبة. وطالما كنت اكلل القصاع، وأجم الكيلجة والصاع. حتى استولت النحوس، وخلت قدر بني سدوس. فأنكرني الصميم والحميم، وجفاني السمير والنديم فيا ليتني مت قبل هذا البلاء العظيم. قال: وكان القاضي قد أشرب قلب حب فتاته، لما رأى من بلاغتها وسمع من صفاته. فقال: يا هذا إنك قد أثمت بحبسك هذه الحرة! أما سمعت أن امرأة دخلت النار في هرة؟ فخذ هذه الخمس المئين، ودع الفتاة عندي في قرار مكين، إلى أن يأتي الله بالفتح المبين. فأذعن الشيخ لحكمه، على رغمه. وقال علم الله أني ما كنت الأرضى بدون، ولكن إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. ثم انثنى إلى وداع ابنته، ودمعه يسيل على وجنته. وأنشد:
لله يا ليلى اذكري أباك ... إذا رأيت فقرة أغناك
أثني على القاضي الذي أحياك ... بلطفه، فإنه مولاك!
وأنني هيهات أن أراك! 
قال سهيل: وكان الشيخ قد تنكر فاشتبهت، إلى أن ذكر ليلى فانتبهت. لكنني ضربت عنه صفحاً، لعلي أرى لذلك المتن شرحاً. فلما انصرف أشار القاضي إلى بعض حشمه، أن ينطلق بالفتاة إلى دار حرمه. فبوأها صهوة مهرة غراء، وأخذ بها يخترق الغبراء. حتى إذا مرت على دسكرة وقفت مستنكرة. وقالت: يا فل قد أنهكني اللغب. وأهلكني السغب. فهل تتركني ريثما أستجم من القلق، وتدركني بما يمسك الرمق! فلبى وانطلق. قال: وكنت قد تبعتها بناقتي عن كثب، حتى لم يكن بين السرج والقتب، إلا كما بين الرتب والعتب. فلما لوى عذاره قالت: يا سهيل تلقف مني، وأبلغ الغلام عني: 
شيخ أشد جنوناً ... من دقة بن عبابه
قد خاتلته فتاةٌ ... واستجهلته صبابة
فحي شيخك عني، ... وقل متى جئت بابه:
ثم عصفت بمطيتها كما انتشب السهم، أو كما خطر الوهم. فعلقت الأبيات في رقعة، وأودعتها تلك البقعة. وانطلقت في أثر الفتاة إحضاراً، فلم ألحق لها غباراً، ولا عرفت لها قراراً، فخرجت من الديار الشامية، وأنا أحتسب الله على الفتن الخزامية.











مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید