المنشورات

المقامة المعرية

حدثنا سهيل بن عباد قال: أتيت معرة النعمان، في ما مر من الزمان. فطفقت أجوب في شوارعها وأجول بين أجارعها. وأنا أتنسم أخبار العلماء والشيوخ، وأتفقد آثار بني تنوخ. حتى دفعت إلى ضريح أبي العلاء، وإذا حوله جماعةٌ من الفضلاء. وهم يحدقون إلى شيخٍ عليه شارة الجلال كأنه من بقية الأبدال. فجعلت أخترق الجمع وأسترق السمع. وإذا هو قد بسط ذراعيه، وخلل عذاريه. وقال: الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا، طريقاً إلى جنته العليا. أما بعد يا أهل الكتاب، أفتعلمون ما تحت هذا التراب؟ إن تحته رمم الأمراء والكبراء والعلماء والعظماء. وذوي الجاه والسطوة وأرباب السعة والثروة. وذوات الحسن والجمال، وربات الفضل والكمال. فإذا رفعتم هذه الرضام، واستنبثتم هذا الرغام. فهل لكم أن تمسوا تلك الجماجم، بإحدى البراجم؟ أو تتأملوا تلك الضلوع بقلبٍ لا يخامره الهلوع أو تنظروا بقايا تلك الأعضاء، بعين لا يغلبها الإغضاء؟ وهل تعرفون المالك من المملوك والغني من الصعلوك؟ والبهيج من المسيج؟ والكريم من اللثم؟ وهل تميزون أبا العلاء، من راعي الإبل والشاء؟ وماذا ترون من عهده، بلزومه وسقط زنده؟ وأين صحة فكره، وسلامة ذكره؟ بل أين عزة لسانه القائل: إني لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل؟ هيهات قد صار الجميع قوماً بوراً، وجعلهم الدهر هباءً منثوراً! فاضمحلت محاسنهم، واشمعلت خزائنهم ونثلت كنائنهم، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم فلينتبه الغافل ولا يشتبه العاقل. وليعتبر كل جبار عنيد ويذكر من كل له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. واعلموا أن الله قد أرسلني إليكم نذيراً، وأقامني بينكم سراحاً منيراً لأذكركم يوماً عبوساً قمطريراً. فلا تغفلوا عن ذكر شرب تلك الكأس، وهو ذلك اليوم المجموع له الناس. واتعظوا بمن تقدمكم من القرون والأقران، ومن درج أمامكم من العيون والأعيان وتوبوا إلى بارئكم واندموا على ما فات، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. واعتمدوا حفظ الفروض والسنن ولا تلووا على خضراء الدمن. فإن المحافظة على الصلوات لا تفيد من يتبع الشهوات. في الخلوات. ومكابدة الصوم لا تنفع من يؤذي القوم. وتجشم الحج والعمرة لا يزكي شارب الخمرة. فليس البر أن تولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، ولكن البر من اتقى والسلام. ثم أطرق وتنهد، وكبر وتشهد، وأنغض رأسه وأنشد:
قد غفل الناس عن اليقين، ... وأخذوا بالوهم والظنون!
لا يذكرون غمرة المنون، وموقف الحساب يوم الدين
وهول ذلك العذاب الهون ... يلهون بالغادة والميسون
وبالجزور والودك السمين، ... والراح والقينة والقانون
يا أيها الناس انهضوا في الحين، ... واصغوا لنصح المنذر المبين
لا تشتروا دنياكم بالدين، ... ولا تباهوا بالحما المسنون!
وليدع كل خاشع رزين ... بقلب عبدٍ خاضعٍ حين
يا رب خذ مني باليمين، ... وامنن بروح القدس الأمين
علي، واقبل توبة المسكين
قال: فلما فرغ من أبياته نكس القوم الرؤوس والأبصار، وخضعوا بين يديه كالأسرى بين أيدي الأنصار. فتهلل الشيخ بوجه صبوح وصدر مشروح، وقال: الله أكبر قد تنزلت الملائكة والروح. فالطف، اللهم بعبادك وكن لهم هادياً ونصيراً، وحاسبهم حساباً يسيراً واكفهم خطب يومٍ كان شره مستطيراً. فازداد القوم على وهنهم وهناً، وصارت جبال قلوبهم عهناً. حتى إذا أزمع المسير عن أمد يسير، نبذوا إليه صرة من الدنانير، وبسطوا لديه المعاذير، وقالوا:
إننا ممن يطعم الطعام على حبه، ويكرم الكريم على ربه. فشكر وأثنى، فرادى ومثنى، وانصاع وهو يدعو بالأسماء الحسنى. قال سهيلٌ: وكنت قد عرفت الخزام بأنفاسه وإن كان قد نكر من لباسه. فقفوته حتى أدركته عن كثب، وإذا به قد جلس بين ليلى ورجب وهو يقسم دنانير الذهب. فيقول: هذا للجزور وهذا للشراب، وهذان للعود والرباب! فقلت: تأمرون الناس بالبر والله يعلم السر؟ فنظر إلي بعين دحرش، وزجرني بصوت دهرش. وقال: قد أردت أن أودع الدنيا، فإني قلما أحيا وأما أنت ففي ريعان الصبا وصحة المزاج، فاقضم الصلصال وتوجر الأجاج. فأمسكت عنه مستكفياً شره، وسدكت به حتى خرجنا من المعرة.











مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید