المنشورات

المقامة المصرية

قال سهيل بن عباد: أزمعت الشخوص إلى الكنانة في ركب من بني كنانة. فلما فرغت من الأهبة أتيت القافلة، في اتخاذ الراحلة فعرض لي رجلٌ أدهم، وقال: آجرتك هذا المطهم كلي يوم بدرهم. فرضيت باشتراطه ولم أبتئس باشتطاكه. وخرجنا نطوي الوهاد والربى، بين الخيزلى والهيذبي. حتى حللنا تلك الديار فنزلنا عن الأكوار، إلى الأوكار. وأحفظني صاحب المطيه،فنقمت منه بهذم العطية. حتى إذا تعذر التراضي ولج في التقاضي، نافذته إلى القاضي. فبينما أتيناه عن كثب، أقبل الخزامي ورجب. فتقدم الغلام، وقال: حيا الله الإمام إن هذا الشيخ أجدب من رحلة وأحرص من نملة. وأسأل من فلحس وأبرد من عضرس. يذخر المرمض ويضن بالغمص. ويتبلغ بالقضاعة في إبان المجاعة. وقد استعبدني لظاظاً، لا ألبس له طحربةً ولا أذوق له لماظاً. وهو يكلفني حمل الأثقال ويسومني ذل السؤال. فأنا أعول نفسي وإياه، حتى كأنني مولاه. فمره أن يقوم بحقي أو يتخلى عن رقي. وإلا قتلت نفسي وخلصت من حبسي. قال: فلما فرغ الغلام من قصته، مال القاضي على منصته، وجعل يتأفف لغصته. ثم سأل الشيخ فتنهد، واغرورقت عيناه بالدموع
وأنشد:
قد صدق الغلام في ما يدعي ... فإنه مذ أشهر لم يشبع
مزملٌ في السمل المرقع ... موسدٌ فوق الحصى واليرمع
يبيت طول ليله لم يهجع ... يدعو إلى الله بقلبٍ موجع
لكنني شيخٌ شديد الزمع ... إذ نهضت بكرةً من مضجعي،
أمشي كما تمشي ذوات الأربع ... قد بعت حتى إنني لم أدع
سواه عندي من جميع السلع، ... فصرت كالطفل الصغير المرضع
لا زاد في بيتي ولا مال معي، ... فإن أردت بيعه لم يقع
لي في الحيوة بعده من مطمع ... فهو أنيسي في الخلاء البلقع
وسندي في عثرةٍ أو مصرع، ... أراه في حديثه كالأصمعي
وفي الدهاء كقصير الأجدع ... وفي المضاء مثل سيف تبع
يقوم بالأمر قيام المسرع، ... وهو إذا ولى قريب المرجع
ويحفظ الود بلا تصنع ... كحفظه سرائر المستودع
فانظر إلى ما نحن فيه واسمع قال: فلما فرغ من أبياته نظر إليه القاضي شزراً وقال: إن لك في أمر نفسك عذراً، ولكن عليك في أمر الغلام وزراً. فإن رأيت أن تبيعه وتستخدم بثمنه، ولا تبكي على أطلال الربع ودمنه. فليس للمرء ثقهٌ من زمنه. وكان الشيخ قد أغرى بالغلام من حضر، عندما ذكر من صفاته ما ذكر. فقام في المجلس بعض حاضريه، وقال: إن كنت تبيعه فأنا أشتريه. فبكى الشيخ حتى اخضل عارضاه وقال: هل من يبيع روحه برضاه؟ لكني قد سئمت العيش المدير كما سئم لبيد. فضع الفأس، في الرأس، وحيهل بهذه الكأس. فابتدر الرجل صفقة العقد وقفى على أثرها بالنقد. وقال للغلام: هيا، فإن الفرج قد تهيا. فلما نهض به لينطلق أجهش الشيخ بصوتٍ صهصلق. وانعكف على الغلام يودعه، ثم خرج يشيعه. وأنشد:
لا تنسني، يا من له النفس فدى ... فلست أنساك ولو طال المدى
إن نكن اليوم افترقنا قددا ... فموعد اللقاء بيننا غدا
والدهر لا يبقى لحيٍ أبدا
قال: فلما قضى وداعه ذهب الرجل يهرول، وتركه وهو يعول. فرئى له قلب كل جبار، وجبر قلبه كل واحلٍ بدينار. فلما أحرز المال انقلب على عقبيه وهو يمسح مدامع جفنيه، واختلس نفسه بحيث لا أهتدي إليه. فبت تلك الليلة بين شوقٍ إلى نظره، وتوقٍ إلى استطلاع خبره. ولما كان الغد خرجت أتخلل المواكب وأتفقد الدهاليز والمساطب. حتى رأيته والغلام بجانبه، وقد لبس كل منهما بزة صاحبه. فلما رآني هش إلي وبش وأنشد بصوتٍ أجش:
قد خالف الشرع الشريف فاشترى ... حراً بجهل نفسه، وما درى
ففر منه جنح ليلٍ وسرى ... في طاعة الرحمن يمشي القهقرى
وإنني علمته بما جرى ... كيف يداري نفسه بين الورى
فحق لي ما نلته كما رأى
قال سهيلٌ: فقلت إن كل العجب بين ميمون ورجب. وانصرفت وأنا أصفق من بلابل سحره وأستعيذ بالله من زلازل مكره.












مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید