المنشورات

المقامة الطبية

حكى سهيل بن عبادٍ قال: خرجت على فرسٍ جموح إلى نيةٍ طروح، فأزعجنى إهماجاً وخبباً، وأرهقني صعداً وصبباً. حتى نهكني اللغوب، وأعياني الركوب. فنزلت لأقيل، وأستقيل. وإذا ناقةٌ ترعى، وهي تنساب كالأفعى. فوقفت أستشرف الهضاب والوهاد، وأنا أريد أن أبد لها بالجواد وإذا شيخٌ قد انقض علي كنسر لقمان بن عاد، وقال: هلكت ولو كنت سهيل بن عباد. فتوسمته من تحت اللثام، وقلت: قاتلك الله ولو كنت ميمون بن خزام فضحك ثم كبر، وقال: الاجتماع مقدر. ثم قال: الطعام، يا غلام فأحضر ما تسنى ثم اندفع فتغنى. قال: فكان عندي أنس ذلك اللقاء، أطرب من شدو سلامة الزرقاء. وبت معه ليلة من ليالي الدهر أحسبها خيراً من ألف شهر. حتى اشتعل رأسها شيباً، وعط الصباح لديجورها جيباً. فاستوى الشيخ على القتب، وقال: أجيبوا داعي الله إلى ما كتب. فأوفضنا في مقازةٍ صلدة، حتى أفضينا إلى بلدة، بها مدرسةٌ للطب عن الحرث بن كلدة. فحللناها حلول النون في القفار أو الضب في البحار. ولما انجابت وعكة السفر، خرج الشيخ في ارتياد الظفر. حتى أتينا المدرسة وهي حافلةٌ بالطلبة، وقد قام في صدرها شيخٌ طويل الأرنبة، عظيم العرتبة. فقال الحمد لله الذي شرف علم الأبدان، حتى قدم على علم الأديان، أما بعد فإن هذا العلم أفضل علوم الدنيا جميعاً، لأنه أشرفها موضوعاً. وهو أدقها نظراً، وأجلها خطراً، وأقدمها وضعاً، وأعظمها نفعاً. وأغمضها سريرة، وأوسعها حظيرة. وهو يستطلع الخبايا ويستوضح الخفايا. حتى قيل: إنه وحيٌ قد هبط على الأطباء، كما هبط الوحي على الأنبياء. وصاحب هذه الصناعة، أروج الناس بضاعة. وأربحهم تجارة وأشهاهم زيارة. وأكسبهم أجرةً، وأجراً وأنفذهم نهياً وأمراً. وعليه مدار الأعمال والمهن، وقيام الفروض والسنن، فإن كل ذلك لا يتم إلا بصحة البدن. وطالما كان هذا الفن أعز من جبهة الأسد، حتى اغتالته الجهلاء فأوثقوا جيده بحبل مسد. فواهاً له كيف ثل عرشه وآهاً لعليلهم كيف قل نعشه قال: وكان في الحضرة فتى باهر اللطافة، ظاهر القضافة. فقال: يا مولاي إني قد منيت بجهل المتطببين الرعاع، الذين لا يعرفون الصافن من حبل الذراع. فلعلك توصيني بما يكون غنية اللبيب، عند غيبة الطبيب. فاطرق هنيهةً للتروية، ثم هب في التوصية، فقال: يا بني لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، وقم وأنت بما دون الشبع قانع. وباكر في الغداء، ولا تتماس في العشاء، والزم الرياضة في الخلاء، واجتنبها عند الامتلاء. ولا تدخل طعاماً على طعام، ولا تشرب بعد المنام. ولا تكثر من الألوان، على الخوان. ولإتعجل في المضغ والازدراد، واجتنب كل ما لم ينضج وما بات من الطعام فهو مجلبةٌ للفساد. وإذا أمكنتك الوجبة فهي أفضل نخبة. واقطع العادة المضرة، مرةً بعد مرة. وعليك بتنقية الفضول، في معتدلات الفصول وإذا مرضت فقابل السبب، واحرض على القوة فإنها إلى الحيوة سبب. وبالغ في الدواء، وما شعرت بالداء، ودعه متى وثقت بالشفاء. وإذا استغنيت بالمفردات فلا تعد إلى المركبات. وإذا اكتفيت بالأغذية فلا تتجاوز إلى الأدوية. وإذا تعاظم العرض، فاشتغل به عن المرض. واعتمد الحمية الواقية، ما دامت العلة باقية. واحذر دواعي النكس، فإنه شر من العلة بالأمس. واعلم أن التجربة خطر، فكن منها على حذر، والعلاج بين استفراغ الحاصل، وقطع الواصل. والصحة تحفظ بالشبه وتسترد بالنقيض، والحمية للصحيح كالتخليط للمريض. واستعمال الدواء حيث لا يحتاج، كتركه عند حاجة العلاج. والمضر اليسير، خير من النافع الكثير، وكل ما عسر قضمه، شق هضمه. ومن كثرت تخمه، تفاقم سقمه. وأكثر الأوصاب، يكون من الطعام أو الشراب. فاحفظ عني هذه المواعظ، واحتفظ بها والله الحافظ. قال: فلما فرغ من كلامه الموضون، برز شيخنا الميمون. وقال: إ، ي لأراك من أهل الفضل والفصل، وأرباب العقل والنقل. ولقد عثرت على مسائل، في كتب الأوائل. فهل تأذن بدفع الظنة، ولك المنة؟ قال: حبذا فقل إذا. قال: ما هو الدشبذ؟ وكم هي الدلائل التي تؤخذ؟ وما هو أعدل الأعضاء، بالنسبة إلى بقية الأجزاء؟ فأخذ الأستاذ في تقليب رأيه، حتى أفرط به لأيه. ثم قال: إن الإنسان موضع النسيان، فهل من مسائل أخرى، لعلي أصادف بها الذكرى؟ قال: قد رميتك بالفصيح فاستعجم، فهل تفرق من صوت الغراب وتفرس الأسد المشبم؟ هيهات إن العلم بتحقيق
القضايا، لا يتنميق الوصايا فغلب على الرجل الوجوم، ولعبت بالقوم الرجوم. حتى قالوا للشيخ: مثلك من يستحق الإمامة، فهل لك عندنا من إقامة؟ قال: قد علمتم أ، النقلة، ثقلة. ولا سيما مع تطارح الشقة وتطاوح المشقة. ف'ن خففتم عني بالإمداد، أتيتكم كوري الزناد. فنفحوه بعدةٍ من الدنانير وقالوا: استعن بالله والله على كل شيءٍ قدير. قال سهيلٌ: فلما فصلنا عن المكان أخذ الشيخ مجلساً مكتوماً، ثم برز فناولني طرساً مختوماً. وقال: إذا أصبت فألقه إلى القوم ولا تثريب عليك ولا لوم. فأجبته إلى ما طلب، وإذا به قد كتب:
أنا ذاك الطبيب وإن طبي ... لنفسي لا لزيدٍ أو لعمرو
وما عالجت سقم الناس يوماً ... ولكني أعالج سقم دهري
إذا ما مسني ضنكٌ، فعندي ... جوارش حيلةٍ وشراب مكر
فلما وقفوا على أبياته، تعوذوا بالله من آفاته. وقالوا: إن لم يكن طيبياً، فكفى به لبيباً فهل لك أن ترده علينا لظرفه، إن لم يكن لعرفه؟ قلت: ذاك مما لا يقرب، فإنه أجول من قطرب. ورجعت إلى موعدنا فوجدت أنه قد أفل قبل الشمس.












مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید