المنشورات

المقامة العاصمية

قال سهيل بن عبادٍ: جمعتني وأبا ليلى الأقدار في بعض الأسفار. وهو قد لبس الطيلسان ولزم تلاوة القرآن. فسرني ما رأيت به من التقى، أكثر من ذلك الملتقى، وسار القوم يستضيئون بنبراسه، ويتيمنون ببركات أنفاسه. وهو يتداول الأدعية والأوراد، ويقص علينا قصص الأفراد، حتى دخلنا عاصمة البلاد. فنزلنا حيث تنزل أبناء السبيل، وبات الشيخ يطرفنا بحديث أشهى من السلسبيل. فانعكفت عليه أخلاط الزمر، كأنه بينهم عثمان أو عمر، ولم يصبح إلا وهو أشهر من القمر. وصار ذكره عند دهقان القوم، يتردد اليوم بعد اليوم. حتى حمله الشوق إلى لقائه، على استدعائه. فلما حضر هش إليه هشاشة الصديق، ثم قال: أوصني أيها الصديق. فأطرق برأسه من الخشوع، واستهلت عيناه بالدموع. ثم قال: يا مولاي اشكر نعمة الله لئلا يغيرها عنك، وكن خائفاً منه كما تخاف الناس منك. وإياك الكبر والتيه، فإن غضب الله على من يأتيه. وكن في اللين والشدة بين بين، فإن الناس لا يؤخذون بالمحض من الطرفين. وعليك بالصبر في الشدائد، فإنه للفرج نعم القائد. ولا تكن سريع النقم لئلا تسقط في الندم. وبالغ في البحث عما اشتبه، ولا تثق بأحدٍ قبل التجربة. واجتنب الطمع والشراهة واتق البخل فإنه مجلبة الكراهة. واعتزل الشراب، فإنه آفة الألباب. واحذر العجل، فإنه موطن الزلل. وارفع شأن العلماء، فإن لهم شرفاً من السماء. واقتصر على مجالسة الحكيم، فإنه يهديك الصراط المستقيم. وكن قليل الصخب، بطيء الغضب. وارحم ذلة الشاكي، وعبرة الباكي واحكم بالحق ولو على نفسك، فضلاً عن أبناء جنسك. ولا تفرق بين الأغنياء والصعاليك والسادات والمماليك. ولا تبع الحق بالمال، فذاك بئس الأعمال. والزم الرصانة والوقار، لتهاب في أعين النظار. ولا تكن عبوساً فتنفر منك الناس ولا ضحوكاً فتزدري بك الجلاس. ولا تعتد بنفسك في الملمات، ولا تستبد برأيك في المهمات. ولا تغفل عن إصلاح الهنات مما فسد. فإن البعوضة تدمي مقلة الأسد. ولا تشتغل بالدنيا عن الدين واجعل الموت نصب عينك في كل حين. واعلم أن كثرة الحلم، ضرب من الظلم. والرخصة في تأديب العاصي، مساعدة على المعاصي. والإغضاء عن الصغائر توريطٌ في الكبائر. والرحمة للمردة الأشرار، كالجور على العبدة الأبرار. ورفع منزلة اللئام، كخفض شأن الكرام. ورزق من ليس مستحقاً، كحرمان من يستحق رزقاً. واعتبر أن الرعايا من الإنسان، ليست كالرعايا من سائر الحيوان. فاجتهد في سياستهم بخيلك ورجلك، واعتقد أنك قد خلقت لأجلهم وهم لم يخلقوا لأجلك. ولا تحسب أن الإنسان يترك سدى، ولن يحاسب غداً والسلام على من اتبع الهدى. فارقم هذه الوصايا على صفحات قلبك واكتب بها إلى أقرانك وصحبك. وأنا زعيم لك بقرة العين، والسعادة في الدارين. قال: فلما سمع الوالي هذه النصائح استجادها واستحلاها ثم استعادها واستملاها. وأمر بتوزيعها في اشتات الجوانب، على كل عاملٍ ونائب. ثم أمر للشيخ بخلعة صوفية، ودنانير كوفية. وقال: اذهب الآن بهذه الجدوى ولا تكن كبارح الأروى. قال سهيلٌ: فلما خرجنا من مجلس الدهقان، وأتينا منزلنا بالخان. جعلت أحمد الله على تلك الهداية، وأغبط الشيخ على حسن النهاية. فضحك بي كالساخر، وقال: ما أشبه الأول بالآخر. ثم أنشد:
علمت أني من رجال الدهر ... أنظر في أمري بعين الفكر
متى فشا ذكري وشاع مكري ... غالطت من يدري كمن لا يدري
بآية من الصلاح تسري ... بين الورى مثل نسيم الفجر
ليستقيم في البلاد أمري
قال: فعلمت أنه لا يحول عن شنشنته الأخزمية، ولا يزول عن سنته الخزامية. ولبثت في صحبته ما شاء الله، وأنا أبكي لدينه وأضحك لدنياه.












مصادر و المراجع :

١-  مجمع البحرين لليازجي

المؤلف: ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)

الناشر: المطبعة الأدبية، بيروت

الطبعة: الرابعة، 1302 هـ - 1885 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید