المنشورات
المقامة الرشيدية
أخبر سهيل بن عباد قال: بينما كنت يوماً في رشيد جالساً في صرح مشيد. إذ لمحت شيخنا الخزامي في بعض الأسواق، فكدت أطير إليه بأجنحة الأشواق. وما لبثت أن بادرت إلى التماسه، لأنقع ظمأي بزلال كاسه. فما وجدت له من أثر ولا رأيت من عليه عثر. وما زلت أجري كأني رميت عن قسي البنادق حتى أفضيت إلى بعض الفنادق. وإذا في عرصة الخان، شيخٌ أعجز من قتيل الدخان. والناس قد أطبقوا عليه ووقفوا حواليه. فتخللت ذلك الغمام لأنظر ما وراء الصمام. وإذا الخزامي وابنته يشتجران، وهما يستجران ولا يزدجران. فلما رأى تكأكؤ الناس عليه كتكأكؤهم على ذي جنة، خرج عن آداب الكتاب والسنة. قال: شقحاً لك يا روق الوعل، وشسع النعل، وغصة الأهل والبعل من أنت من شراة العقائل ومن قومك من سراة القبائل؟ إنك لأخسُّ الناس أجمع أبصع، وأبوك الأم من ابن القرصع فتقدم إليه رجلٌ كالسارية، وقال: ما خطبك وهذه الجارية؟ قال: هي امرأة جرى لي بها القلم فبدلت لذتي بالألم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم قال: أراك قد أكثرت شحناً، وأضمرت لحناً، وإني لأسمع جعجعة ولا أرى طحناً. فأبِن عما في نفسك، لننظر بينك وبين عرسك. فقال: إنها هلقامةٌ نهمة، جشعةٌ ملتهمة، مترفهةٌ متنعمة متغطرسةٌ متعظمة. تطلب بيض الأنوق والأبلق العقوق وتحب التبذير والإسراف، كأنها من بنات الأشراف. ويهون عند جوفها دمها وتصبح ظمآنة وفي البحر فمها. فقالت المرأة: يا للفليقة حشفٌ وسوء كيلة وشيخ أكذب من سهيلة. فسلوه ماذا اقترفت وبماذا أسرفت؟ قال: إنها تريد جردقاً كل مساءٍ ولا ترضى بالخبز والماء، وتأنف من المشي بلا حذاء، والنوم بلا وطاءٍ، حتى كأنها ماء السماء، أو فاطمة الزهراء. وأنا شيخ فقير أتبلغ بالقوت اليسير. وأنتظر زكوة العيد من أمدٍ بعيد. فلا قِبلَ لي بهذه السعة، لو حكمت بها الأيمَّة الأربعة. ثم شرق بالبكاء،حتى صار نحيبه كالمكاء. وأنشد:
ألان لي الدهر بأساً شديداً ... فكان كنارٍ ألانت حديدا
وأظمأني كل ظمءٍ فلما ... وردت سقاني ماءً صديدا
أحال فطال وصال فهال ... وجال فمال وغال العديدا
وغادرني بعد بذل الصلات ... لقصد الجوائز أنشي القصيدا
فريداً وحيداً طريداً شريداً ... فقيداً عميداً بعيداً حريدا
وأنساني الأمس حتى كأني ... خلقت به اليوم خلقاً جديدا
كأني لم أركب الخيل يوماً ... ولم أمتلك في العباد العبيدا
ولم أقر ضيفاً ولم أنف حيفاً ... ولم أنض سيفاً ولم أطو بيدا
ولكنني قد أتيت رشيدا ... فألفيت ذاك سبيلاً رشيدا
لقيت الكرام الأولى يملأون ... يداً بالندى ويحلون جيدا
طوال الأيادي ثقال الغوادي ... ضئال الأعادي غطاريف صيدا
وهبني سفينة نوح، فليس ... على البحر وقر فيمشي وئيدا
فلما فرغ من افتنانه، افتتن القوم بفكاهة لسان ونباهة جنانه، وجعلوا يذمون له صروف زمانه. ثم حباه كل واحد ديناراً وبسط له اعتذاراً. فأثنى جميلاً وشكر وقال الحمد الله إرغاماً لمن كفر. ثم انقلبا يتمشيان كنسيم الخزرج، في منابت العرفج. قال: فلما خلا بنفسه وثاب إلى وقاره وأنسه. دخلت عليه مهللاً. وقال: لولا منة الخلاق، ودماثة الأخلاق، لفرطت مني بإدارة الطلاق. ولكن الحلم أهنأ المناهل، وإن كان الحليم مطية الجاهل، قلت: مثلك من يدرك القصى، ولا تقرع له العصا. فاحتمل أوصابك،واصبر على ما أصابك فشمخ واستكبر وأنشد وهو قد أدبر:
أنا السفاح ذو الفتك ... بديع الكر والإفك
أنا النار التي غلبت ... على الجلمود بالسبك
أشد الناس طائلة ... وأشهر من قفا نبك
ولكن الزمان بغى ... فعاض العقد بالسلك
وجار علي مهتضماً ... كبيت الشعر بالنهك
تقاذفي له لججٌ ... كأني نوح في الفلك
على أني حمدت الله ... في سعةٍ وفي ضنك
ومن يرضى بعيشته ... فذلك صاحب الملك
قال سهيلٌ: فلبثت معه برهة من الزمان، كأنني في حديقة من الجنان فيها فاكهةٌ ونخلٌ ورمان. حتى إذا أزمع الفراق تسنم ناقة كالعضر فوط، وقال: موعدنا منفلوط.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)