المنشورات
المقامة الأدبية
حدث سهيل بن عباد قال: ترامت بي سفرة شاسعة في موماة واسعة. وكنت قد انضويت إلى صحب أحمى من الجمرات، وأكرم من الطلحات. فسرت بينهم ناعم البال آمن البلبال. وما زلنا بين توصيب وإصعاد حتى هبطنا بطن واد. وإذا خيمة شماء، على صفاة صماء. وفيها قوم نسمع لهم ركزاً، ولا ندرك منهم رمزاً. فنزلنا عن الأقتاد، لنريح الأكتاد ونخمد غليل الأكباد. ثم نصبنا الأطيمة، كما تنصب في الوليمة. وقمنا كالندل حول النار، ونحن نتلهن بالعسم القفار. حتى أنزلت الهيطلة، وأحضر الهجم والنوفلة. فجلسنا نلتهم ما حضر، حتى لم نبق ولم نذر. وبينما فرغنا إذ تراءى لنا شبيح، وهو ينشد من وراء الحجاب بصوت بديح:
كم بطل مدجج غلاب ... قهرته بأسمر صلاب
معتدل الأوصال والكعاب ... لا يعرف الطعان بالأعقاب
ظمآن لا يروى من الشراب ... سنانه أمضى من الشهاب
يخوض في الأحشاء والألباب ... وينفث السموم كالحباب
قال: فأوجسنا خيفة في أنفسنا، وتواصينا بالحرس على معرسنا وبتنا نراعي الجمال والخيل إلى أن مضى ذهل من الليل. وإذا بالرجل يقول: يا غلام ادن مني وخذ الأدب عني. ثم قال: يا بني عامل الناس ما استطعت بالإحسان، وكن بينهم عفيف الطرف واليد واللسان. وقابل النعمة بالشكر وأحي الجميل بالذكر. وحافظ على الصديق ولو في الحريق. وإياك الغيبة، فهي بئس الريبة.
وانظر إلى معايبك قبل معايب صاحبك. واجتنب المزاح فإنه يخفض الجناح. ولا تكن إذا سألت ثقيلاً ولا إذا سئلت بخيلاً. ولا تطلب ما في يد الناس، ولو طاقة من الآس. وإذا جلست فاعرف مقامك، وإذا حدثت فانتقد كلامك. وإذا تكلمت ليلاً فاخفض، وإذا تكلمت نهاراً فانفض. وإذا دعيت إلى الولائم، فكن آخر جالس وأول قائم. وأكرم الناس فتكرم، ولا تغتم الزيارة فتسأم. ولا تجالس الخسيس فإنه يزري بالجليس. والزم الوداعة والحياء واجتنب الرياء والكبرياء. واحذر الكسل، فإنه آفة العمل. ولا تطلب الغنى بالمنى. واطلب النوى عن الهوى. واقصر الطماح، إلى الراح. ولا تدخل في الفضول فتخرج عن القبول. وإذا غضبت فاترك بقية من الرضى، ولا يذهلك ما قد حضر عن ذكر ما مضى. واطلب الإفادة جهدك، ولا تدع بما ليس عندك.
واعتزل البخل الذميم، والكرم الوخيم. وإذا دعيت فشمر الذيل وحيثما انقلبت فلا تمل كل الميل. ولا تأت ما يلجئك إلى المعذرة، فتسلم من كل خطة منكرة. واعلم أن الأدب أشرف من النسب، واكتساب العلم خير من اكتساب النشب. والعلم بلا علم كالنحل بلا عسل. وصدق يضر، خيرٌ من كذب يسر. وانتشاب المنايا، وأيسر من ارتكاب الدنايا. واقتحام النار، أهون من التحاف العار. وداء الأسد أسلم من داء الحسد. والقناعة، نعم الصناعة. وحب السلامة، عنوان الكرامة. والنظر في العواقب، من أحسن المناقب. فأتمر بما أمرناك وأحذر مما حذرناك، واذكرنا كما ذكرناك. قال: فراعتنا آدابه الباذخة، إلا أن تكون كحياء مارخة. وبتنا نعجب من صفته ونهفو إلى معرفته. حتى إذا رقت حاشية الظلماء وشقت غاشية السماء. برز الرجل من حجابه المصون، وإذا هو شيخنا الميمون. فحدق القوم إليه بالنظر، وقالوا: قد عرفناه وهل يخفى القمر؟
ووثب كل إليه وثبة السمع الأزل، وحياه تحية الرئيس الأجل. ثم أهبنا به إلى رحالنا وتربصنا عن ترحالنا. وأقمنا معه يوماً أعذب من معتقة الدير، وأفصر من حسو الطير. فلما تبوأ للرحيل طمرته، اعتقل مخصرته، وقدم بين يديه أسرته. فقلت: يا أبا ليلى أين رمحك العسال، الذي قهرت به الأبطال؟ فأشار إلى قلمه وقال:
ويك هذا رمحي، وهذا سناني ... منذ يومي أعددته للطعان
ليس يروى من المداد وقد ... ينفث سم الهجاء كالأفعوان
وهو قد خاص في المحابر حتى ... خضبت رأسه خضاب البنان
قال: فقلت له لله درك ما ألعبك بالقلوب وأبصرك بكل أسلوب. فهل تأذن لي في التحول إلى صحبتك، ولو فاتني وطري في سبيل محبتك؟ قال: يا بني قد وطنت نفسي هذه النوبة على الصراع، وآليت أن لا أترك رأساً بلا صداع، لما رأيت في الناس من لؤم الطباع. فأخشى إذا طمى الوادي أن يطم على القريّ، فيلتحق ذنب السقيم بالبري. ثم ولى بجواده ينهب الطريق وأذاقني ببعاده عذاب الحريق.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)