المنشورات
المقامة الإسكندرية
حدث سهيل بن عباد قال: نحونا الإسكندرية من القاهرة، في عفرة صاهرة. فكنا نقيل بياض اليوم ونستبدل السرى من النوم. وبينما نحن في ليلة كالحة الإهاب، حالكة الجلباب، عرض لنا شبح اسود على جمل أقود. فتواثب القوم إليه كبنات طبق، وما لبثوا أن جاؤوا به في الربق. فلما أسفر ابن ذكاء، وانتقب وجه الأفق بالأياء. تفرست في أسيرنا الظلامي، وإذا هو شيخنا الخزامي. وقد تلبد عثنونه كالثرب، وعليه خيعل كطيلسان ابن حرب. فقلت: الله أكبر، قد مدرتم المنبر هذا الخزامي الذي يفيد البهج، ويفدى بالمهج. فتأشب القوم حواليه، وأخذوا يتنصلون إليه. فلما سكن جزعه واستكان زمعه. قال: يا بزاة الليل، وغزاة الليل. أهجمتم على دوسر النعمان، أم على مردة عزوان؟ واقتنصتم سليك المقانب، أم طمعتم بفداء حاجب؟ لقد تقلدتم قلائد عوكل، بهجومكم على هذا الضيكل، ولكن قد كان ذلك في الرق المنشور، وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور. فلما انجلى عليهم بدره، علا لديهم قدره. فأحفوا له في التكرمة، وباؤوا من وحشة الغراب إلى أنس العكرمة. ثم أخذوا في السير الضريج على متن كل إضريج، وهو يؤنسهم في التعريس والتعريج. حتى ألقوا عصا السفر في السرار من صفر. فنزلنا في منزل مأهول، قد بني للمعلوم والمجهول. وأقمنا في ذلك الحواء إلى ليلة السواء. وإذا شيخ قد ناهز العمرين كأنه أحد العمرين فجلس مجلس الفقيه وأخذ ينثر الآلئ من فيه. حتى إذا تمادت به الأشواط في شقة بعيدة النياط. تصدى له رجل قصاقص كأنه فرافص. وأخذ يهيم معه في كل واد، ويتلون كأم الحبين في الأعواد. حتى أفضى الأمر إلى الشقاق، والستر إلى الانشقاق. فقال: إني أراك بين الفقهاء، كالمستعصم بين الخلفاء! إن كنت فقيه العصر فأي رجل صح بيعه أباه واستحق الثمن فاستوفاه؟ وأي غاصب لا يبرأ بالرد على المالك، وأي رجل أتلف شيئاً فلزمه شيئان هنالك؟ وأين ترد شهادة مسلمين، وتقبل شهادة ذميين؟ فأطرق الشيخ أي إطراق، واحتبكت عليه المسألة كحبك النطاق. فاستطال الرجل واهتز، وقال: من عزَّ بزَّ. قال: فثار الخزامي كالفنيق العذافر، وعمد إلى ذلك الرجل الظافر. وقال: قد علمت يا شيخ الحرم أن انتهاك الحرم من الحرم. ولقد رأيتك تخوض في المعقول والمنقول، وتمزج الفروع بالأصولو. إن كنت من العلماء، فما هي أنواع الإنساء؟ وبماذا يفرق أهل الدرية، بين الاستعارة والتشبيه وبينها وبين الكناية؟ وما هي المقولات العشر والكليات الخمس، وما هو التناقض في القضايا والعكس؟ فارتبك الرجل في تلك المسائل، ولم يكن عنده طائل ولا نائل. قال: إن كنت قد أنكرت هذه النظائر، فكم طائفة في جناح الطائر؟ فإن كنت قد استخشنت الشرس، فكم دائرة في جلد الفرس؟ فإن رأيت التخفيف أحب، فكم عقدة في ذنب الضب؟ فتخازر الرجل وشزر، وقال: عدا القارض فحزر. ثم غلبت عليه الأنفة، فلم يفه ببنت شفة. ثم شمر ذيله وانقلب وقد تحطم كالمخشلب. فلما انصاع أخبط من عشواء، وأخيب من قابض على الماء. قال الشيخ: زعم هذا الحبنطى، أن يروعنا بالضبغطى. ولم يدر أن دون ما يأمله نهابر، وهو أفوت من أمس الدابر. فثار إليه ذلك الشيخ الموتور، وقد التألم صدع قلبه المبتور. وقال لا جرم أنك باقعة البواقع، وفلك النسر الواقع، وإني لأراك ضيق الحال على سعة النظر، فخذ هذه الجدوى واستعن بها على مؤونة السفر. قال: وهاك مني وصية تعقد عليها بنانك وتروض بها لسانك. إن العلم إن أكرمته أكرمك، والمال إن أكرمته أهانك. فدارت وصيته في تلك العراص، كما دارت كلمة الإخلاص. فلم يبق في القوم إلا من بض له حجره، وغض عليه شجره. فودعهم وانثنى وهو يسحب ذيل الغنى.
مصادر و المراجع :
١- مجمع البحرين لليازجي
المؤلف: ناصيف بن
عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجى، نصراني الديانة (المتوفى: 1287هـ)
الناشر: المطبعة
الأدبية، بيروت
الطبعة: الرابعة،
1302 هـ - 1885 م
16 مايو 2024
تعليقات (0)